الدكتور عبدالله طه التويتي يسرد تجربته مع كورونا بشكل بديع ومبهر بقدر الألم الذي اعتصره، وفقا لما نقله الصحفي "سامي نعمان" عن صديقه الطبيب
إلى المقال كما ورد:
======
انا وكورونا...
اصبت بالزكام في منتصف رمضان.. بداية مايو
اخذت الدواء، وتحسنت..
بعدها بكام يوم..
اعراض مزعجة..
حمى والام شديدة في المفاصل والعظام والعضلات.
كنت اشعر اني قد بلغت من العمر عِتيّا...
وأني لا حول لي ولا قوة..
اخذت جرعة مضاد حيوي قوي، ومهدئات..
خفّت الحمى، واعراض الارهاق والام الجسم، لكنها لم تفارقني...
الخميس.. 21 مايو.. يوم 28، وليلة 29 رمضان
عادت الحمى، والارهاق الشديد..
وتسارع بسيط في الانفاس..
عملت مقطعية وفحص دم..
التشخيص.. التهابات رئوية بكتيرية.
اعطوني ادوية ونصائح وروحت البيت..
لم تدخر زوجتي ام معاذ ولا بناتي وسعا في خدمتي، وتحضير الوصفات الطبيعية المطبوخة وغير المطبوخة، وبذلن قصارى جهدهن ترغيبًا وترهيبًا، لكي اتناول تلك الوصفات والاكلات..
السبت 23 مايو.. اخر يوم من رمضان...
شعرت بشيء من التحسن وأكلت، وشربت افضل من اليوم السابق..
يوم العيد.. 24 مايو..
قضيت عيدي طريح الفراش، ما بين نوبات الالم والسعال والحمى.. وشيءٍ من الهدوء..
لكن بعد العصر كانت حالتي سيئة..
ذهبت للمستشفى..
ودعتني دموع زوجتي ام معاذ وبناتي..
وشيعتني نظراتهن المؤلمة..
والمؤلم فعلا انهن كن يبكين، ولا يقدرن على احتضاني وتوديعي..
حتى ان احدى بناتي انهارت واحتضنتني من الخلف وهي تبكي، وتتضرع الى الله ان يلطف ويسلم...
واصلت خطواتي الثقيلة حتى تواريت في السيارة..
طبعا كنت في البيت ألزم الزوجة والأولاد بالابتعاد عني لمسافة مترين على الأقل،
وعدم استخدام اي ادوات استخدمتها، وتعقيم اي شيء بعد استخدامي له.
وصلت المستشفى وانا في حالة شبه مغيبة..
لا أكاد أجمع شتات فكري، وجسمي..
تولت زوجتي د. ابتسام (ام فاروق) زمام الامور..
عملوا لي مقطعية..؟؟!!!
سألت ام فاروق كيف الوضع..
قالت: اسوء شوية من مقطعية الخميس..
مشيت معها متثاقلا لاستكمال اجراءات الترقيد في قسم العزل المركز..
وكنت أجر خلفي حملًا ثقيلًا من الأوجاع، والإرهاق، والتعب..
دخلت ام فاروق معي لقسم العناية المركزة، وأصرت على مرافقتي، رغم رفضي لذلك خوفا عليها، ولان لديها طفلين احدهما رضيع..
لكني رضخت امام اصرارها..
قضيت الليلة الاولى في العناية بحالة سيئة من الارهاق وضيق النفس، والتلبك المعوي، والغثيان..
كنت اغفو...
فأرى شريط حياتي يمر أمام عينيَّ..
رأيتني طفلا صغيرا في قريتنا..
وفجأة يقفز الشريط الى محطة لم تكن تخطر على بالي، وكأنه جرس انذار على تقصير هنا، أو تجاوزٍ هناك..
يمر الشريط عشوائيا، ملتقطا مشاهد من حياتي التي غمرها الله جلّ وعلا بلطفه وستره الجميل..،
وفي غفواتي كانت تتراقص أمامي عوالم غريبة من الأشكال والألوان...
الأشكال التي لا تستقر على شكل...
والألوان التي لا تثبت على لون...
براكين من الأشكال والألوان المتغيرة تجوب رأسي بشكل عشوائي وجنوني...
أمواج من الأفكار تهبط بي الى أعماق محيطات العالم..، وتعلو بي إلى أعالي شوامخ الجبال...
تعبت جدًا وانا احاول السيطرة على تلك الأشكال والألوان المجنونة.. ومحاولة تنظيمها لأخذ منها شيء مفهوم..
ذهبت محاولاتي أدراج الرياح..
بل على العكس كل ما حاولت استجماع فكري وتركيزي لفهم تلك الظواهر، كلما زادت جنونًا، ورعونةً، واستنفارًا..
لذلك رأيتني استسلم لها...
وكأنني قشةً من خشب في عرض المحيط..
أو ريشةً في مهب الريح..
كنت أستمع لأصوات عجيبة وغريبة..
بعضها كلمات مفهومة، لكنها غير مترابطة، ولا يثبت من معانيها في رأسي شي...،
وأكثرها طلاسم لا افهم منها شيء، رغم محاولاتي...
كان رأسي يمتلئ بضجيج لا أعرف مصدره، وأشعر بأن جمجمتي على وشك الأنفجار..
كنت أرى في منامي رؤى كثيرة..
منها أضغاث أحلام..،
ومنها أشبـاه أحــلام..،
ومنها أشطـار أحــلام..،
ومنها تشوهات أحلام...،
كان وعيي يذهب عني ويعود لي فانتبه واذكر الله وادعو لنفسي، وأدعو لوالدي، وابنائي وبناتي، واخواني واخواتي، ولأمواتي، وأموات المسلمين، ولجميع مرضانا، ومرضى العالم أجمعين..
كنت أسابق الزمن في الاستغفار، والتوبة، لعلي أدركها قبل الغرغرة...
كنت أعقد جلسات نقاش مع ربي عز وجل..
اناجيه وكأنني أراه، اما هو فلا شك أنه معي يسمعني ويراني..
كانت تقلقني فكرة الرحيل..
أراها تدور في رأسي، وتحوم بكياني، وكأنها تبحث عن استقرار..
نعم..
لقد كنت اتكلم مع نفسي ومع ربي بأن الخير سيكون في ما سيختاره الله لي..
وأقنعت نفسي بأن نجاتي ستكون في خيرة الله...
ولكني كنت اتزلف لربي (طمعًا، ورجاءًا) بأن يكون اختياره في اتجاه عودتي للحياة...
هكذا هي النفس البشرية..
هلوعة للخير الذي تعرفه...
جزوعة من المجهول الذي تجهله...،
كانت هذه الأفكار تتنازعني، وخرجت منها بخلاصة مفادها..
يا رب..
ان استحييت نفسي..
فلك الحمد والشكر، ومنك التوفيق في ما هو آت.. حتى تتوفاني وانت راض عني..
وإن أمسكتها..
فلي ذنوبٌ وخطايا، وزلاَّتٌ، وسيئاتٌ لا تساوي شيئًا أمام رحمتك التي وسعت كل شيء، وكرمك الذي يعم الكون..
واستقرت نفسي، وانشرح صدري لذلك..
وهكذا مضت الليلة الأولى وسحابة اليوم الأول الذي انقضى، وكأنه امتداد لليلة البارحة..
في الليلة الثانية..
جاءني في المنام أخي وزميلي ورفيق الغربة والدراسة الطبيب الانسان النبيل الشهيد درهم محمد عبده راشد القدسي رحمة الله تغشاه...
رأيته شابًا، مفعما بالحيوية..
حاولت أن أحتضنه فتبسم بوجهي وتجاهل رغبتي، وقال تعال نشوف انت مذاكر ولا عادك؟؟!!!.
انبطح الحبيب درهم وانبطحت بجانبه تماما مثل كنا نفعل ونحن تلاميذ صغار عندما نستذكر دروسنا ونحن مستلقون على بطوننا..
واخونا الدكتور عبدالواحد العذيقي قائم لم ينبطح معنا (كان قد تعافا من اصابته التي كانت خفيفة)..
ما هي الا لحظات حتى قام الحبيب درهم وقال لي.. عادك مش جاهز.. الله معك... واختفى بلمح البصر...
قصصت رؤياي على زوجتي ام الفاروق والتي كانت تعرف الدكتور درهم حق المعرفة فقد تتلمذت على يديه في مستشفى جامعة العلوم، فانهمرت دموعها وقالت..
صاحبك يبشرك انك ستنجو من هذه الأزمة...
وهو ما كان...
بعد 72 ساعة من دخولي قسم العناية..
شعرت بشيء من التحسن..
وبشروني بأن فحوصاتي تتحسن..
قال لي د. نبيل عباد.. لم نصدق ان تتحسن وقد كان 75% من رئتيك طايحة..؟؟!!!!!
انفتحت مقلتاي، وانفرجت شفتاي على مفاجأة لم أكن اتوقعها..
ام الفاروق قالت لي ان المقطعية اظهرت تغير بسيط للأسوء عما كانت عليه المقطعية السابقة..
الدكتور معتصم العماد لم يظهر أي شيء يدل على ان ثلاثة أرباع سعة الرئتين قد تشرب بالالتهابات...
لم يظهروا أمامي أي جزع او خوف..
فقط بعد ان عديت مرحلة الخطر كلموني بالحقيقة...
اقسم بالله أن هذا التصرف منهم قد كان أهم خطوة علاجية قدموها لي...
لا أجد كلمات تفي هذا الموقف حقه..
لا أخفيكم سراً..
لو علمت بأني لم أعد اتكأ الا على ربع صدري، في أخذ أنفاسي، لانهارت رباطة جأشي التي تعمدت اظهارها، وتصنعتها،
لو رأيت افلام المقطعية او التقرير، لفسد سلاحي الذي أتشجع به،
ولاهترَّت مِنسأتي التي أتكأ عليها...
ولسقطتُ على الأرض منهارا،
لو حدث ذلك لرأيتني واقعًا في فخٍ نفسيٍ لا أحسد عليه..
عندها أدركتُ أن للغيب أيادٍ بيضاء لا نعرفها، ولكن الله يعلمها ويمنُّ بها علينا...
تم نقلي بعد الليلة الثالثة الى غرفة خاصة..
ما زلت اتنفس عن طريق كمامة الأكسجين..
اتحرك بصعوبة..
اي مجهود يسلخ صدري كسكين جزار مبتدئ،
كنت أشعر بنار تلتهم صدري..
وكأني قد خضت سباق الـ100 متر حواجز...
بدون سابق تدريب...
تحسنت حالتي ... وفحوصاتي...
شعرت بصدري يتفتح شيئًا فشيئًا...
انني أعود للحياة...
طال شعر لحيتي وشاربي..
وبدون تشذيب بدوت مثل القنفذ...
خرجت من المستشفى بعد سبعة أيامٍ بلياليها..
وجعبتي متخمة بتجربة لن انساها ما حييت..
ومعي كيس كبير من الأدوية علي الاستمرار في تناولها لمدة اسبوعين..
وبنصائح واجبة الاتباع من الدكتور سعيد مانع ميدمة (الطبيب المعالج)، بالتزام الحجر الصحي لمدة اسبوعين..
والتزام الحذر في مخالطة الآخرين لمدة اسبوعين إضافيين..
والراحة التامة، وفترة نقاهة، والابتعاد عن بذل أي مجهود..
سمح لي فقط بالذهاب للحمام، والصلاة...
اتقدم بخالص الشكر لكل من ساندني، بالدعاء، او بالوقوف الى جانبي من أسرتي، ومن الكادر الطبي والكادر المساعد في مستشفى جامعة العلوم والتكنولوجيا..
أشكر جميع الأهل والأصدقاء، والمتابعين لحالتي بالاهتمام والدعاء..
وقبل ذلك كله أشكر الله الذي بفضله وحده نجوت من هذه الورطة الصحية الكبيرة، والتجربة المؤلمة..
جمعتكم خير وبركة وسلامة من كل مكروه..❤🌹❤