في فبراير/شباط 2010، أعلن الرئيس اليمني آنذاك علي عبدالله صالح بشكل عابر، أن حروب صعدة انتهت.
لم تنته تلك الحروب الست التي بدأت عام 2004 بين الجيش اليمني وجماعة الحوثيين باتفاق بين الطرفين.
أدت حروب صعدة إلى انقسام سياسي داخل الحكومة والجيش نتيجة الصراع على السلطة بين أحمد علي، نجل صالح، وعلي محسن الأحمر، أكبر القيادات العسكرية في البلاد وشريك صالح القديم في الحكم.
كما عززت من قوة الجماعة عسكريًا، فبعد إعلان صالح انتهاء النزاع، سيطر الحوثيون على محافظة صعدة، مكان ولادة الجماعة ومعقلها الرئيسي.
وخلال سنوات الحرب؛ ازدادت قوة الحوثيين العسكرية حتى أصبحوا قوة سياسية وعسكرية رئيسية، وبعد أربع سنوات ونصف من إعلان صالح انتهاء الحرب، كان الحوثيون قد توسعوا خارج صعدة واستولوا على العاصمة صنعاء.
نجح تدخل التحالف بقيادة السعودية في وقف تقدم الحوثيين عسكريًا وطردهم من جنوب اليمن، ولكن مسار الحرب تحوّل بعد ذلك لصالح الجماعة ومنحها زخماً كبيراً لتعزيز سلطتها وسيطرتها في شمال اليمن، واستئناف توسعها العسكري.
كما أصبح التحالف بين الحوثيين وإيران أكثر صلابة في خضم صراع ذو أبعاد محلية وإقليمية. في هذه الأثناء اتسم صعود الحوثيين إلى السلطة بالعديد من الخصائص البارزة التي تكشف عن طبيعتهم، وتعطي فكرة عن مساراتهم المستقبلية المحتملة.
تحالفات لا تدوم
تبنى الحوثيون خلال مسيرتهم التوسعية من صعدة إلى صنعاء سياسة التحالفات المؤقتة واستهداف منافسيهم الواحد تلو الآخر، ما يعني التحالف مع خصم ضد آخر لفترة قصيرة، فعلى سبيل المثال لم يمانع الحوثيون خلال الثورة اليمنية عام 2011 التنسيق والتعاون مع حزب الإصلاح الإسلامي للتخلص من الرئيس صالح.
ساعد هذا التحالف الحوثيين على تحقيق مكاسب سياسية أخرى، كان أهمها طرد محافظ صعدة المعيّن من قِبل الحكومة آنذاك وتعيين حليفهم فارس مناع -أحد أبرز تجار الأسلحة غير المشروعة في اليمن والمنطقة -خلفاً له في مارس/آذار 2011. وعندما عُقد مؤتمر الحوار الوطني، تقرّب الحوثيون للحراك الجنوبي الذي يطالب بانفصال جنوب اليمن.
وتبنوا سردية الحراك الجنوبي، بأن الجنوب تعرض لهجوم النظام القبلي الشمالي. دعم الحوثيون -أيضاً -الحراك الجنوبي والحزب الاشتراكي في مطالبهم بتبني نظام حكم فيدرالي يتكون من إقليمين، لكن خلال الفترة التي عُقد فيها المؤتمر، استمروا في الاعتماد على قوتهم العسكرية الضخمة لدفع الأحداث لصالحهم، وبعد انقسام مؤتمر الحوار حول الفيدرالية، واصلت الجماعة توسعها العسكري واستولت على محافظة عمران، البوابة الشمالية للعاصمة صنعاء في يوليو/تموز 2014.
أدى سقوط عمران وتقدم الحوثيين نحو صنعاء إلى تقاربهم مع صالح، عدوهم السابق، ولعبت شبكات النفوذ والعلاقات التي يمتلكها الأخير في مؤسسات الدولة وداخل المجتمع دورًا رئيسيًا في تسهيل دخول الحوثيين إلى العاصمة صنعاء والاستيلاء على السلطة.
استند التحالف بين الحوثيين وصالح بشكل رئيسي على مواجهة الخصم المشترك، حزب الإصلاح.
إذ كان صالح يعتقد بأن قيادات الحزب وراء محاولة اغتياله في يونيو/حزيران 2011، أما بالنسبة للحوثيين، فإن الحزب هو أبرز المنافسين الأيديولوجيين لهم في المناطق القبلية أقصى الشمال.
كما رأى كل من صالح والحوثيين مصلحة لهم في عرقلة العملية الانتقالية، حيث أراد صالح إثبات فشل ثورة 2011، في حين رأى الحوثيون أن القوة العسكرية ستمنحهم سلطة أكثر، من أي عملية سياسية.
كان دخول الحوثيين دون مقاومة تقريبًا إلى صنعاء في سبتمبر/أيلول 2014 مدعومًا أيضًا برغبة الأطراف الأخرى في إضعاف حزب الإصلاح.
اعتقد الرئيس عبدربه منصور هادي أن الحوثيين سيواجهون الفرقة الأولى مدرع -التي يقودها اللواء علي محسن، حليف الإصلاح وقائد الجيش الذي قاتل الحوثيين خلال حروب صعدة -والقوات العسكرية الأخرى الموالية للإصلاح، وبالتالي سيخلّصونه من شريك صعب في السلطة لينفرد بالحكم، لكن الحوثيين سيطروا على العاصمة بأكملها.
توترت العلاقة بين الحوثيين والأحزاب السياسية المختلفة بعد أن فرض الحوثيون شبكة المشرفين على جميع الوزارات.
ثم تصاعدت حدة التوترات ووصلت لحدود القطيعة في يناير/كانون الثاني 2015 بعد أن اختطف الحوثيون مدير مكتب الرئاسة أحمد عوض بن مبارك عندما كان في طريقه لتقديم مسودة الدستور إلى اللجنة الوطنية المكلفة بالإشراف على مخرجات مؤتمر الحوار تحت ذريعة أن المسودة تنص على نظام فيدرالي يتكون من ستة أقاليم، وهو الأمر الذي رُفض خلال المؤتمر.
ودفعت هذه الخطوة بالرئيس هادي ورئيس الوزراء خالد بحاح إلى الاستقالة احتجاجًا على ما قام به الحوثيون.
وبحلول مارس/آذار 2015، عندما اجتاح الحوثيون تعز والجنوب لمطاردة الرئيس هادي، الذي فر إلى عدن وتراجع عن استقالته، كان الحوثيون قد فقدوا جميع حلفائهم المؤقتين باستثناء صالح، الذي استمر في التحالف حتى دعوته إلى تمرد ضد الحوثيين في ديسمبر/كانون الأول 2017، الأمر الذي أدى إلى اندلاع اشتباكات محدودة انتهت بمقتله، لتنتهي آخر تحالفات الحوثي البراغماتية المؤقتة.
لا يتردد الحوثيون من التقارب مع أي طرف إذا كان ذلك سيفيد الجماعة في الصراع ضد أي عدو مشترك.
فعلى سبيل المثال، أعلن القيادي الحوثي حسين العزي في مارس/آذار 2020، علناً، دعمه للمجلس الانتقالي الجنوبي الانفصالي في صراعه مع حكومة هادي في جنوب اليمن.
تظل طبيعة جماعة الحوثيين لا تسمح سوى بالتحالفات المؤقتة، فعندما يتعلق الأمر بالحكم، فإن الجماعة تتولى الحكم بمفردها.
كما لم تسعَ الجماعة إلى تشكيل أي تحالفات سياسية أو اجتماعية دائمة، مثل التحالف مع بعض القبائل، ولكنها تبنّت نهجًا يعتمد على القمع وفرض إرادتها على المجتمع اليمني.
تنوع الصور وتناقض الخطاب
إلى جانب قوتهم العسكرية وتحالفاتهم القائمة على المصالح، أظهر الحوثيون ضمن مساعيهم للاستيلاء على السلطة استعدادًا لتغيير الصورة التي تعبّر عنهم ودوافعهم، بغض النظر عما إذا كان ذلك يتعارض مع أفعالهم على الأرض أو مواقفهم الأيديولوجية.
كانت الصورة المفضّلة للحوثيين هي صورة الأقلية التي تعرضت لاضطهاد نظام صالح وتهميش صعدة على المستويين السياسي والتنموي.
روّج الحوثيون لهذه الصورة تحديداً خلال ثورة 2011 لجذب أبناء تعز والجنوب الذين شعروا أيضاً بالاضطهاد من قِبل الحكومة المركزية في صنعاء.
وخلال مؤتمر الحوار، قدم الحوثيون من خلال ممثلهم أحمد شرف الدين، أنفسهم كمؤمنين بالعلمانية ومؤيدين لفصل الدين عن الدولة، وهو الأمر الذي يتناقض إلى حد كبير مع أصول جماعة الحوثيين كجماعة إحيائية زيدية ومع الأيديولوجية الدينية التي تقوم عليها.
بعد السيطرة على عمران في يوليو/تموز 2014، بدأ الحوثيون بالترويج لأنفسهم على أنهم جماعة تحارب الفساد، حيث شدد زعيمهم عبدالملك الحوثي على هذه النقطة في جميع تصريحاته، سواء قبل دخولهم إلى العاصمة أو بعدها، لكن هذا الخطاب تجاهل تمامًا حقيقة أن الحوثيين تحالفوا مع صالح الذي تزامنت فترة حكمه مع تفشي الفساد السياسي في البلاد.
بعد تفجيرات مسجدي بدر والحشوش في 20 مارس/آذار 2015، التي تبناها تنظيم الدولة الإسلامية، بدأ الحوثيون بترويج نفسهم كجماعة تقاتل التنظيم وتنظيم القاعدة في اليمن.
واستخدموا الحرب ضد الإرهاب ذريعة للتوسع العسكري في تعز وجنوب اليمن، مع العلم أن الطبيعة الطائفية للجماعة أدت لازدياد التوترات بينهم وبين المجتمعات في هذه المناطق.
وبعد أن شن التحالف العربي عملية عاصفة الحزم في 26 مارس/آذار 2015، صورت قيادة الحوثيين الجماعة كحركة وطنية تدافع عن اليمن ضد المعتدين الأجانب.
ووصفت وسائل إعلامها اليمنيين الذين عارضوها “بالمنافقين“، وهو تعبير يعد أشد سوءاً وخطراً من الكفار، لأنه ذو دلالة دينية قوية، إذ اُستخدم لوصف خصوم النبي محمد في المدينة المنورة.
وأخيرًا، قدم الحوثيون أنفسهم أثناء حكمهم، سلطة شرعية تحمي البلاد وتلتزم بأطر الجمهورية، لكن هذا الادعاء يتعارض مع وصفهم لثورة 1962 التي أطاحت بالإمامة وأسست الجمهورية بأنها “انقلاب عسكري“.
كما تتعارض تصريحات الجماعة عن التزامها بالديمقراطية مع طبيعتها الأيديولوجية والإقصائية.
فعلى سبيل المثال، وصف مؤسس الجماعة حسين الحوثي الديمقراطية بأنها مؤامرة غربية.
ويتعارض نص الوثيقة الفكرية والثقافية للجماعة -التي تمثل المرجعية الأيديولوجية للحوثيين والتي حذفت من موقع الجماعة على الإنترنت -مع مفاهيم الدولة الحديثة، مثل الدستور والمواطنة؛ إذ أنها تدافع عن المفاهيم المرتبطة بالإمامة، وأهمها ولاية أهل البيت (عائلة النبي محمد) على العالم.
بالتالي فإن ادعاء الحوثيين بأنهم يريدون شراكة مع القوى السياسية والاجتماعية الأخرى في اليمن يتعارض مع التزامهم بالأفكار الدينية المطلقة غير القابلة للنقاش والتي لا يرغبون في التنازل عنها.
التوسّع المقدس بالإضافة إلى إبرام التحالفات بطريقة براغماتية وتغيير الصورة التي يظهرون بها، اتسمت أحد الثوابت التي تميز صعود الحوثيين إلى السلطة بالرغبة في التوسع العسكري المستمر.
خلال مشاركتهم في الثورة اليمنية عام 2011، خاض الحوثيون معارك في حجة والجوف ضد الجيش والقبائل المحلية، وأثناء مشاركتهم في مؤتمر الحوار حارب الحوثيون السلفيين المتمركزين في دماج في صعدة، وفيما بعد القبائل وكتائب الجيش اليمني الموالية لعلي محسن الأحمر في الجوف وعمران.
وبعد سيطرتهم على صنعاء في سبتمبر/أيلول 2014 وتوقيعهم مع الفصائل السياسية والتزامهم باتفاق السلم والشراكة، واصل الحوثيون توسعهم في محافظات البيضاء وإب والحديدة.
لا يمكن فهم هذا التوسع دون فهم الأيديولوجية والخطاب الذي تتبناه الجماعة تجاه مؤيديها.
اعتمد الحوثيون تغيير الصورة التي يظهرون بها بحسب السياق والجمهور، بينما لديهم خطابًا متسقًا عند مخاطبة مؤيديهم -وهو خطاب يكشف الطبيعة الدينية والطائفية للجماعة.
يردد الحوثيون لاتباعهم أفكارًا تؤكد نقاء الجماعة وتلّمح أنها الجماعة الوحيدة على مسار الحق، على عكس القوى السياسية والاجتماعية الأخرى.
كما أنهم يميزون الهاشميين (جزء من آل البيت) ومنهم عائلة الحوثي المباشرة ويعاملونهم كطبقة مميزة عن بقية المجتمع.
أما فيما يتعلق بمعارك الحوثيين التي تهدف لتوسيع نفوذهم وسيطرتهم خارج صعده، فلقد وصفها الحوثيون “بالمسيرة القرآنية“.
واستخدام كلمة “قرآنية” يوحي أن أفعال الجماعة مستوحاة من القرآن، في حين تشير كلمة “مسيرة” إلى كون هذه المهمة مستمرة، وأنها تبدأ في اليمن وهدفها النهائي هو تحرير القدس كجزء من المعركة الأوسع ضد الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل.
الولاء والتماسك الحوثيون جماعة دينية زيدية منحصرة باليمن، ما دفعهم لتوسيع خطابهم ليعكسوا عن كثب الأفكار التي تتبناها إيران والحركات الإسلامية الشيعية الأخرى ضمن ما يسمى بـ”محور المقاومة”، لكن ظلت طبيعة الجماعة ليست فقط شديدة المحلية، بل وشديدة المناطقية والسلالية أيضاً.
لا يمكن الانضمام بسهولة إلى نواة جماعة الحوثيين، لأنها لا تثق في أي شخص انضم بعد توسعهم خارج صعدة وبعد أن أصبحوا السلطة الحاكمة في صنعاء.
ويمكن رؤية هذا بوضوح عند النظر إلى خلفية معظم القادة العسكريين والمشرفين، فكثير منهم لهم صلات قرابة أو نسب مع عائلة الحوثي وكانوا جزءًا من الجماعة خلال فترة التمرد ضد الحكومة المركزية، مثل عائلات الطاووس والعجري والشامي وهبرة وفليته.
تتمثل البراغماتية السياسية للحوثيين في تعاملهم مع الآخرين في نسج تحالفات مؤقتة وتغيير الخطاب بشكل يتعارض مع طبيعة الجماعة العقائدية الحقيقية وتكوينها الضيق.
فالعلاقات بين أعضاء الجماعة مبنية على الولاء المطلق للقيادة والإيمان الكامل بحتمية تحقيق أهداف الجماعة، كما أن إيمان الجماعة بنقائها أدى لشعورها بالتفوق على غيرهم وعدم ثقتهم بالآخرين.
يتطلب فهم الحوثيين التمييز بين خطابهم الداخلي الحقيقي ومقارنته بأفعالهم وخطاباتهم الموجهة لغير الحوثيين.
فقبل كل شيء، يعتبر الولاء للقيادة والجماعة قيمة أساسية للأخيرة.
وتماسك هذه الجماعة ووحدتها هما أساس وجودها وكذلك منحها حماية من الآخرين الذين لا ينتمون للجماعة، سواء من القوى الأجنبية أو اليمنية.
جماعة الحوثيين تشكلت خلال سنوات الحرب، وحتى الآن خلال حكمها للعاصمة صنعاء وسيطرتها على غالبية سكان اليمن، ما زالت تصرفاتها متأثرة بالشعور بأنه هناك دائمًا تهديدًا لوجودها.