تقرير: بشير زندال
العلم في برنامج السلاطين الرسوليين
بدأت المدارس العلمية في اليمن في العصر الأيوبي حينما أنشا الملك المعز إسماعيل بن طغتكين بن أيوب مدرستين، المدرسة السيفية في تعز (593 هـ)، والمدرسة المُعِزّية او مدرسة المعز في زبيد (594 هـ).[1] استقل عمر بن رسول (ت647 هـ) عن الدولة الأيوبية وأسس الدولة الرسولية (626-858هـ، 1229-1454م). ومع الدولة الرسولية بلغت ثقافة بناء المدارس العلمية في اليمن أوجها؛ ذلك أن ملوك الدولة الرسولية و الأمراء و الأميرات و الوزراء، اهتموا وتنافسوا في بناء المدارس العلمية ووقف الأموال عليها.
مثلت المدارس العلمية جامعات ذلك العصر كونها أعلى المؤسسات التعليمية والبحثية حينئذ. ومع انهيار الدولة العباسية (656 هـ، 1258م) أي بعد تأسيس الدولة الرسولية بثلاثين سنة فقط تحولت زبيد وتعز إلى قبلة للعلماء والمتعلمين. فكانت مدارسها في العصر الرسولي تدرس علوم الفقه واللغة وعلوم الطب والفلك والزراعة والكيمياء والجبر والحساب والمساحة وغيرها من العلوم. كيف لا تصبح مدارس تعز وزبيد قبلة للعلم والعلماء في العالم الإسلامي وقد برزت ظاهرة السلاطين العلماء في الدولة الرسولية. فأغلب سلاطينها وأمرائها وملوكها قد برعوا في التأليف في الزراعة والفلك وفي الأنساب والتاريخ والصنائع. فمن مؤلفات الملك عمر بن يوسف بن رسول “كتاب الجامع في الطب، وكتاب الإسطرلاب، وكتاب التبصرة في علم النجوم، وكتاب التفاحة في معرفة الفلاحة”.[2]ومن مؤلفات الملك المجاهد علي بن داوود بن يوسف الرسولي،
“كتاب الإشارة في العمارة، كتاب في الخيل وصفاتها وأنواعها وبيطرتها”.[3] وعباس بن علي بن داوود، “كتاب بغية الفلاحين، وكتاب الألغاز الفقهية”[4] كما ألف الأفضل الرسولي (778 هـ) أول معجم متعدد اللغات في تاريخ المعاجم العربية والمعروف بـ (قاموس السلطان)، أو (معجم السلطان)، ويشمل هذا المعجم على حوالي 1200 كلمة عربية مع مرادفاتها باللغات العالمية المزدهرة في عصره، الفارسية والتركية واليونانية والأرمنية والمغولية. ليصبح أول معجم بست لغات.[5]
وقد كان عصر بني رسول أخصب عصور اليمن، وأكثرها إزدهاراً بالعلم، لاهتمام بني رسول بنشر العلم ورفع مكانة العلماء عندهم وتكريمهم وفتح أبواب قصورهم لهم في أي وقت شاءوا. مما جعل كثيراً من العلماء يولون وجوههم شطر مدينة تعز، حاضرة الدولة الرسولية.[6]
كما كانت اليمن مكاناً يحج إليه العلماء من كافة أنحاء العالم الإسلامي كالإمام اللغوي مجد الدين الفيروز أبادي (817 هـ) الذي وفد على الأشرف الرسولي وتصدر في مدينة زبيد للتدريس، وكان الملك الأشرف أحد من أخذ عنه، ثم ولاه الأقضية. [7] وقد ألف في زبيد قاموسه الشهير “القاموس المحيط” واستقر فيها حتى مماته. وغيره من العلماء أمثال ابن حجر العسقلاني وغيرهم.
النساء الرسوليات مؤسسات المدارس العلمية
تعاني كتابة التاريخ من الشحة و التهميش في ما يتعلق بأدوار النساء في العصور التاريخية المختلفة. و في اليمن يغلب التركيز في الكتابة عن النساء من زاوية لا تولي الاهتمام الكافي لنضالات النساء و انجازاتهن في الحقب التاريخية المختلفة. لهذا السبب ، يتناول هذا المقال نساء العصر الرسولي والمدارس التي قمن ببنائها بهدف تسليط الضوء على إنجازات النساء في العصر الرسولي و دعم القائمين على الدولة لدور النساء في المؤسسات العلمية في ذلك العصر.
بالرغم من الشهرة التي حظيت بها النساء الأيوبيات في مجال التعليم، إلا أن إنجاز النساء الرسوليات كان الأكبر من حيث عدد المدارس التي قمن بإنشائها. أما النساء اللائي دعمن التعليم في الدول الإسلامية بشكل فردي فهن أيضا عديدات، كفاطمة الفهرية التي بنت جامع القرويين ومدرسته عام 254 هـ، و خوند تتر الحجازية ابنة السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون التي أنشئت المدرسة الحجازية في القاهرة عام 748 هـ. إلا أنها كانت حالات فردية لم تصل إلى الحد الذي وصلت إليه النساء الأيوبيات و الرسوليات. ولذلك يعد نشاط أميرات الدولة الرسولية مميزاً بجمعيته و كثافته؛ لأن التعليم كان يمثل لهن قضية أساسية في حياته بالشكل الذي لم يجعل قضية التعليم أمراً فرديا تقوم به أميرة واحدة ذات بصيرة وحكمة، بل قضية تبنتها معظم الأميرات على مدى أكثر من 230 سنة هي عمر الدولة الرسولية.
تفوقت الأميرات الرسوليات على الملوك الرسوليين من ناحية عدد المدارس التي قمن ببنائها، فقد بلغت عدد المدارس التي انشأتها الأميرات أربعة وثلاثون مدرسة.[8] مقابل عشرين مدرسة أنشأها الملوك[9]. وقد أنفقن من حر مالهن بسخاء على بناء المساجد والمدارس العلمية وأربطة العلم والأسبلة والخانقات[10] وملحقاتهن من مكتبات ودور للطلبة وعلى العلماء والفقهاء والمشائخ وطلبة العلم، وعلى اقتناء الكتب ونسخها. ليس فقط في تعز عاصمة الرسوليين الصيفية و زبيد عاصمتهم الشتوية بل في إب وجبلة وبعض القرى التي كانت تمثل مراكز علمية في ذلك العصر.
كما أسلفنا بنت الأميرات الرسوليات حوالي 34 مدرسة، ومن الصعب تناول وذكر كل هذه المدارس، لذلك سنكتفي بذكر بعض أهم المدارس.
المدرسة الفاتنية بزبيد، نسبة إلى جهة[11] فاتن ماء السماء بنت المؤيد الرسولي (ت 768 هـ)، ويلحقها سبيل ماء يعرف بالسبيل الفاتني. وقد رتبت فيها إماماً ومؤذنا ونزاحا للماء ومصلى وأيتاماً يتعلمون القرآن وأوقفت على الجميع ما يقوم بكفايتهم.[12] وما زالت أوقاف المدرسة الفاتنية قائمة حتى اليوم. كما بنت مسجد فاتن (المعروف بمسجد جيلان) لأن بعض الصوفية التابعين للطريقة الجيلانية اتخذوه مسجدا لهم. وتجاوز خيرها إلى الفقراء والمساكين فأوقفت عليهم وقفاً جيداً يعرف “بالبر المؤيدي”[13].
المدرسة الياقوتية، أسستها اختيار الدين ياقوت زوجة الملك الظاهر يحيى بن الملك الأشرف الرسولي ( 850 هـ). كما أسست المدرسة الياقوتية في حيس. ورتبت فيها إماماً ومقرئاً للقراءات السبع وأوقفت عليهم.[14] كما بنت المدرسة الياقوتية في ذي السفال وأوقفت عليها.[15] و بنت أيضاً المدرسة الياقوتية بعدن وأوقفت عليها أوقافاً تكفي الإمام والمدرسين والأيتام[16].
المدرسة السابقية بزبيد، وتسمى بالعفيفية أو مدرسة مريم وتعرف الآن بالعافية، أسستها الحرة مريم بنت شمس العفيف (ت 713 هـ) زوجة الملك المظفر يوسف بن عمر الرسولي (ت 694 هـ).[17] كما بنت “المدرسة الجديدة” في مغربة تعز، و”مدرسة ذي عقيب” في ذي عقيب، وبنت جوارها داراً للضيوف.[18]
المدرسة العومانية في جبلة، بنتها الحرة لؤلؤة زوجة الأمير المؤسس للدولة الرسولية، علي بن رسول[19]. وتعتبر من أوائل مدارس الاميرات في العصر الرسولي. وقال المؤرخ و القاضي إسماعيل الأكوع عن الحرة لؤلؤة: “لو لم يكن لها من المآثر غير هذه المدرسة لكانت كافية وافية توجب الذكر الجميل والثناء الجزيل، وقد دفنت في هذه المدرسة.”[20]
مدرسة مُدية بزبيد، بنتها جهة دينار الشهابي، عائشة بنت محمد بن علي بن رسول، زوجة الملك المظفر يوسف بن عمر، وأوقفت على المدرسة ما حسن من أراضيها.[21]
المدرسة الأسدية بتعز، ابتنتها دار الأسد ابنة الأمير أسد الدين محمد بن الحسن بن علي بن رسول، زوجة الملك المظفر. وقد وقفت على مدرستها وقفاً جيداً.[22]
المدرسة الفرحانية بزبيد، عمرتها جهة الطواشي جمال الدين فرحان (ت 836 هـ) هي زوج السلطان الملك الأشرف إسماعيل، وأم ولده الملك الظاهر يحيى بن إسماعيل الرسولي.[23]
المدرسة الشمسية بتعز، بنتها الدار الشمسي ابنة عمر بن علي بن رسول (ت695)، شقيقة الملك المظفر، وقد رتبت فيها إماماً، ومؤذناً، وقيماً، ومعلماً، وأيتاماً يتعلمون القرآن، ومدرساً للفقه الشافعي، وطلبة ووقفت عليهم وقفاً جيداً.[24] كما بنت المدرسة الشمسية في زبيد.[25]
مدارس الصلاحيات أنشأتها آمنة بنت الشيخ إسماعيل الحلبي والدة الملك المجاهد الرسولي (ت762 هـ) “واحدة في قرية المجلية شرقي تعز والأخرى في قرية السلامة وثالثة عظيمة الوقف، جيدة العمرة، بزبيد، والخانقاه بزبيد، والصلاحية بقرية المسلب، من وادي زبيد، وأخرى في قرية التُّربية، من وادي زبيد ايضاً.”[26] ولها أيضا مدرسة أم السلطان في زبيد. كانت من المدارس الكبرى المتعددة الغرف (القاعات الدراسية) وتعدد المدرسين فيها وفي تخصصات كثيرة متعددة [27].
الجهة المعتبية بتعز، نسبة إلى الطواشي جمال الدين معتب بن عبدالله الأشرفي (ت796) وهي والدة الملك الناصر والأفضل الرسولي والأشرف إسماعيل. وقد جعلت فيها مؤذنا وقيما ومدرسا وطلبة ومعلما و أتاحتها للأيتام كي يتعلموا القرآن.[28]
" />
العمل الفني لرفيدا أحمد
نبيلة ابنة السلطان الملك المظفر (ت 718 هـ)، أنشأت المدرسة الأشرفية في زبيد، ووقفت عليها أوقافاً تقوم بكفاية القائمين بها. كما ابتنت مدرسة في ظفار الحيوضي، ومدرسة في تعز، ومسجداً في جبل صبر، ووقفت على الجميع أوقافاً تكفيها.[29] وقد درّس فيها، أبو الحسن علي بن ابي بكر الناشري (ت 844)، صاحب كتاب روضة الناظر، في أخبار الملك الناصر والثمر اليانع وتحفة النافع.
ماء السماء ابنة السلطان المظفر (ت 724)، بنت المدرسة الواثقية بزبيد جوار منزل أخيها الملك الواثق فنسبت إليه. ورتبت لها إماماً ومؤذناً وقيماً ومعلماً وأيتاماً يتعلمون القرآن، ومدرساً، وطلبة علم، ووقفت عليها من أملاكها ما يكفيهم.[30]
الدار النجمي ابنة علي بن رسول، أنشأت مسجد الدار النجمي (أو المدرسة النجمية) في جبلة، اشترتها وكانت داراً لابن المعلم وسمتها باسم زوجها ووقفت عليها وقفاً عظيماً.[31] ومن أشهر من درّس فيها عباس بن منصور السكسكي[32] صاحب كتاب “البرهان في معرفة عقائد أهل الأديان”. كما أنشأت المدرسة الشرفية (نسبة إلى أخيها شرف الدين موسى بن علي بن رسول) في مدينة إب[33]، كما أنشأت في إب أيضاً المدرسة الزاتية (نسبة إلى بانيها)[34]. وأيضاً أنشأت في جبلة المدرسة الشهابية، نسبة إلى أخيها شهاب الدين محمد بن علي بن رسول، وكانت هذه المدرسة سكناً للحكام.[35]
لم يقتصر الاهتمام بالتعليم على أميرات العصر الرسولي و لكنه أيضاً شمل النساء اللاتي كن جواري في القصور آنذاك و اللاتي اهتممن أيضاً ببناء المساجد كمسجد الحاجة قنديل (المشهور بمسجد سلوم) ومسجد الحاجة غصون (المشهور بالغاسلية) ومسجد الحاجة سمح (المشهور بمسجد الحيّ) والثلاث كن جواري في قصر الملك المجاهد الرسولي[36]. كما أوصت امرأة كانت ماشطة لزوجة الملك المنصور علي بن علي بن رسول، وكانت متزوجة من مملوك يسمى شقير، قبل موتها بأن تكون داره مدرسة بعد وفاتها وأوقفت أرضاً عليها، فاشتهرت بالمدرسة الشقيرية.[37]
أشرفت الأميرات الرسوليات على المدارس إشرافاً كاملاً، و كن يتابعن بأنفسهن التدريس و اختيار المعلمين وكان أزاوجهن من الملوك و الأمراء، و الذين كانوا في معظم الوقت أيضا من العلماء ذوي المؤلفات في مجالات عدة، كالنحو والأدب، والفقه، والتاريخ والمعاجم ، يعينونهن على ذلك. فقد استدعى الملك المظفر الرسولي بطلب من زوجته العلامة محمد الشرعبي (ت 702 هـ) ليكون مدرسا في المدرسة السابقية التي بنتها زوجته في زبيد فوافق شريطة أن يكون ابنه خلفاً له في القضاء فوافق المظفر ليضمن تطبيق رؤية زوجته في شأن التعليم في المدرسة.[38]
تفتح القراءة في تاريخ نساء الدولة الرسولية مجالات واسعة للتعرف على المدارس اللاتي بنينها، و التي ذكرنا بعضها في هذا المقال على سبيل المثال و ليس الحصر، إلا أن هذا لا يغطي ما كن يقمن به من إضافات على مساجد أو مدارس أخرى كانت موجودة، أو على ترميمها وهي كثيرة ولا مجال لذكرها هنا.
و في النهاية نأمل أن يساهم هذا المقال في الدعوة إلى تسليط الضوء بشكل أكبر على إيمان الرسوليات بقضية التعليم وأهميتها في حياة الأمم و إسهاماتهن في مسيرة التعليم في اليمن و العالم الإسلامي أجمع الذي كانت كبرى مدارسه وبعض أهم علمائه على اتصال بمدارس زبيد وعلمائها وبما كانت تنتجه مدارسها من ذخائر العلوم والفنون.
بشير زندال، أستاذ الترجمة والأدب الفرنسي المساعد في جامعة ذمار. مترجم وقاص وصدر له العديد من الإصدارات في مجال الترجمة والأدب.