كثيرة هي الصفحات اليمنية، العامّة والشخصية، على موقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك" التي تبحث عن مساحة مختلفة ومُغايرة عن الصفحات الغارقة في الشأن السياسي وتداعياته وأنماط الحوار الدائرة فيه التي تغلب عليها نبرة الكراهية والمناطقية والمذهبية بأشكال بلغت مستويات رهيبة. فمع كل يوم، نجد صفحات تهتم بالطبخ المحلّي اليمني وصفحات تبحث في المعتقدات والتقاليد اليمنية بغرض توثيقها وصفحات أُخرى مهمتها التوثيق لتاريخ الرياضة اليمنية، وعلى وجه الخصوص تاريخ كُرة القدم والمنتخبات الوطنية وأرشفة صور ذلك التاريخ. لكن، مع ذلك، لا تزال نبرة الكراهية والمناطقية في الصفحات السياسية هي الغالبة والسائدة.
لكن السؤال هنا: هل كانت بضاعة المناطقية والمذهبية تلك مخزونة تحت الأرض، وقد وجدت فرصتها كي تطلع على السطح وتكون ظاهرة على صفحات فيسبوك؟ هل كانت مشاعر الكراهية هذه مخفية في الصدور ووجدت - الآن - ثغرة للظهور كي تُعلن عن نفسها؟ هذه المشاعر لا يمكن أن تُخلق بين يوم وليلة! لا يمكن الفرد أن ينام وهو سليم منها وينهض في اليوم التالي وقلبه ممتلئ بها. يأتي تكرار هذه التساؤلات مع تزايد الحالات، وإن كانت هذه المرّة أكثر قسوة ووضوحاً. مع حصول حالات وفاة في أكثر من منطقة يمنية مع شخصيات بعضها معروف والآخر من عامّة الناس، ومعها برزت مجدداً حالة الفرز المناطقية والمذهبية ومعها حالة الاستقطابات السياسية، إضافة إلى موازين "الموقع الأزرق" الذي صار يدير أسطوانة المزاج الشعبي اليمني ويقوده باتجاه هذا النهر الكبير الساري في حوض الكراهية.
وسيكون الحديث هنا عن أكثر من مثال، من اغتيال المصوّر الصحافي والمتعاون مع وكالة "فرانس برس" نبيل القعيطي، وهو خارج من منزله في مدينة عدن الجنوبية، إلى حالة وفاة الشاعر اليمني البارز حسن الشرفي، وبينهما رحيل الصحافي أحمد الحبيشي. بين كل هؤلاء دارت أسطوانة الكراهية، وصبّت في مجراها مع حالة الاحتراب التي ظهرت وكل طرف من الأطراف يسعى إلى الوقوف مع صاحبه، متعمّداً تجريح الطرف الآخر والتسفيه من تاريخه.
يقول الناشط اليمني هاني الجنيد، إن ما يحصل على موقع "فيسبوك" قد بلغ مداه، حيث وصل إلى درجة امتناع البعض عن كتابة منشور تعزية في وفاة واحد من أهل أسرته "لأن ذلك الفقيد ينتمي إلى جبهة سياسية أُخرى غير التي ينتمي إليها". ويضيف الجنيد في حديثه مع "العربي الجديد" أن هذه الحالة جديدة وطارئة على السياق الاجتماعي اليمني، حيث كانت مسألة التعازي والمشاركة في أحزان الآخرين قضية مفروغاً منها ولا توضع تحت أية حسابات سياسية أو مذهبية، حيث الأحزان كانت توحّد بين الناس".
يواصل الجنيد، وهو أحد شباب ثورة فبراير 2011 اليمنية التي ساهمت في إسقاط سلطة الرئيس الراحل علي عبد الله صالح، قائلاً إن هذه البديهيات الاجتماعية التي كانت في مرتبة "المقدّسات" لم تعد حاضرة اليوم في زمن مواقع التواصل الاجتماعي حيث "صار كل واحد يخشى كتابة تعزية قد تُحسب عليه من قِبل الجماعة التي صار ينتمي إليها". ويتوقف القيادي السابق في القطاع الطلابي للحزب الاشتراكي اليمني في جامعة صنعاء عند وفاة الشاعر اليمني حسن الشرفي وكيف كان تناولها على صفحات "الموقع الأزرق"، مشيراً إلى أن طريقة المسّ بتاريخ هذا الشاعر "الذي رقصنا على قصائده المُغناة على طول الوطن اليمني والاتهامات التي نالته بأنه قد باع فكرة النظام الجمهوري وصار مع جماعة الحوثي، عبارة عن مسألة أفرزتها حالة الانقسام المتحكّمة اليوم في الواقع اليمني الحزين". ويختم الجنيد حديثه بقوله: "لم يعد للموت هيبة في اليمن".
قد لا يبدو تحشيد "الجبهات الفيسبوكية" هذا بريئاً أو عفوياً أتى على نحو على فردي، إذ سادت فكرة الجيوش الإلكترونية في الفترة الأخيرة، وظهرت بأنها مدعومة من قبل شخصيات سياسية كبيرة تمدها بالمال. فكيف يمكن تصوّر أن يقرّر المئات، مرّة واحدة، الهجوم على شخصية واحدة أو الدفاع عنها؟ لا يمكن أن يأتي هذا الأمر فجأة أو مُصادفة. ماذا يعني أن يُقتل الزميل نبيل القعيطي، ومن بعدها بساعات قليلة تظهر تدوينات متتالية تُبرر مسألة قتله مستعينة بما كان يكتبه على صفحته طوال حياته في مسألة المعركة بين الشمال والجنوب؟ كيف أتت كل الاستعادات فجأة، وفي وقت قصير، وصارت في كل ركن على مساحة الفيسبوك اليمني؟ وكيف، في الجهة الاُخرى، تحضر شهادات في تاريخ الشاعر حسن الشرفي من جهة أنصار جماعة الحوثي على نحو يظهر أن هذه المسألة تخصّ واحداً يتبعهم وعليهم واجب الدفاع عنه؟
في السياق، تقول الكاتبة والروائية اليمنية بشرى المقطري، في حديث مع "العربي الجديد" إن الكراهية والعداء في اليمن أتيا "نتيجة الاستقطابات السياسية وكل طرف يحتكر الوطنية ويعتبر نفسه ممثلاً لها، وعبر كل ذلك تم إصدار صناعة كراهية من نوع آخر لم نشهده من قبل".
المقطري، وهي الحائزة أخيراً جائزة "يوهان فيليب بالم" الألمانية عن ترجمة كتابها "ماذا تركت وراءك/ أصوات من بلاد الحرب المنسية" إلى اللغة الألمانية (والذي صدر في نسخته العربية عن دار رياض الريّس – بيروت 2018)، تعتبر أن مستوى هذه الكراهية سيكون ملحوظاً بالدرجة الأولى لمرتادي مواقع التواصل الاجتماعي فيسبوك، "لكن هذا الأمر لا يمكن اعتباره مقياساً لما يحصل على أرض الواقع حيث خطاب تخوين أو كراهية لأن غالبية أهل اليمن يعانون القهر وسطوة القوى المتصارعة على الثروة والسلطة".
وحين سؤال المقطري عن فكرة الكراهية هذه المُنتشرة على مواقع التواصل، ترى أن موقع التواصل الاجتماعي فقط سلّط الضوء على عمق خطاب الكراهية بين جمهور "المفسبكين"، الذي هو في الواقع انعكاس لاستقطابات قوى الحرب في الشمال والجنوب وأزمتها النفسية. وهو في النهاية أمر "طارئ لكونه نتاج الحرب في اليمن، وأقصد أنه ما زلنا نعيش في حضيض الكراهية".