لموقع خيوط:
على خلاف البلدان العربية الأخرى، لم تستند المقامات الموسيقية في اليمن إلى أي أشكال تنظيرية، واقتصر حفظها على الانتقال الشفاهي. فالأرجح أن المقامات ظلّت مقترنة باللحن، الذي طغت أهميته، واعتمد المغنون على نقلها بإخلاص وإتقان الحِرفي. غير أن تلك الأشكال المقامية تعكس المسار الذي اتخذه الغناء في اليمن، بعيداً عن أي تواصل مع الغناء في البلدان العربية الأخرى.
بل إن الأسلوب الذي اتبعه النسيج المقامي في اليمن اتبع خصوصية تتضمن تلك التعديلات الطفيفة على أبعاد الدرجات الموسيقية. وهو جانب يجعله مقتصراً على الانتقال الشفاهي، أو أن تدوينه وفق النوتة الحديثة يجعله تقريبياً، وسيتطلب فهماً بما جرى عليه من تعديلات في الدرجات الموسيقية. وسنعتمد على أمثلة أشار إليها الفنان والناقد الموسيقي اليمني جابر علي أحمد. وعلى سبيل المثال تخضع الدرجة الثانية والثالثة، أي الـ”ري” والـ”مي”، للتعديل في مقام “الحجاز” اليمني، فتنخفض بصورة طفيفة عند الـ”ري” وتزيد قليلاً عند الـ”مي”.
ويعطي هذا التعديل البسيط لمقام “الحجاز” نكهة مختلفة عما هو متبع في البلدان العربية الأخرى، لكنه أيضاً ربما يصدم الآذان التي لم تعتد عليه، فلا تستسيغه بسهولة. لكن ما يجعل الحجاز في اليمن استثنائياً، مرتبط باستخدام ثلاثة أرباع الصوت، وهو الأمر الذي استدعى تسميته بـ”الحجاز الكبير” للتفرقة بينه و”الحجاز العجمي”، أو “الحجاز” المُستخدم في الوطن العربي.
أما التعديلات التي تجري على الدرجات النغمية، فإنها أمر جرى عادته في المقامات اليمنية ليميزها عن غيرها في العالم العربي، وحتى في محيطها القريب. وهو ما يثير تساؤلاً عن الأسباب التي دفعت اليمنيين إلى تمييز نسيجهم المقامي بهذا الشكل؟
لعل تلك التعديلات الطفيفة في درجات السلم النغمي، مرتبطة بجذور ضاربة في القدم، تعود إلى عهد الممالك اليمنية القديمة مثل حضرموت وسبأ وغيرها. فالأرجح أن اليمن عرفت تغيراً في الضروب المقامية، لكن هذا الاختلاف شهد تغيراً وتأثر بمحيطه لاحقاً. وهذا يسوقنا إلى احتمالين إما أراد اليمنيون حفظ تلك السمات بما يتناسب مع ذائقتهم الجمالية للغناء، أو أنه بصورة مخالفة كان نابعاً من أخطاء في نقل مقامات موسيقية من محيطهم، بعد أن أصبحت الحجاز مركزاً للتأثير الثقافي بحكم انتشار الإسلام من هناك. ثم استساغوا تلك التعديلات لتصبح عرفاً، على أن تلك التعديلات الطفيفة أصبحت قاعدة عامة.
وهذا ما يبدو واضحاً في استخدام مقام “النوا أثر”، والذي لا نطلع عليه سوى في موشح صنعاني وحيد “يا مكحل عيوني بالسهر ” ما لم تكن هناك موشحات أخرى لم نطّلع عليها. فمن ناحية يعتبر المقام الوحيد الذي يخلو من ثلاثة أرباع الصوت في الغناء التقليدي اليمني. مع وجود استثناءات سنعود إليها لاحقاً. ومن المحتمل أن يكون استخدام هذا المقام داخل الغناء اليمني جاء من التأثيرات التركية. لكنه تضمّن أيضاً تعديلات طفيفة على الدرجة الثالثة والرابعة والسادسة والسابعة، ما بين الزيادة والنقصان، بحسب ما تضمنه تحليل جابر علي أحمد للاستخدامات المقامية في الموشح الصنعاني التقليدي.
تثير الخارطة المقامية للغناء اليمني التقليدي مقامات شرقية، وهو نظام مُتبع في الغناء اللحجي مثل: “الراست” وبعض تفرعاته مثل “السوزناك” و”النيروز”، و”السيكاه” بتفرعاته مثل “العراق” و”الهُزام”، إضافة إلى “الصبا” و”البياتي”، والأخير يتضمن تفرعات أوسع تشمل “الشورى” و”الحسيني” و”البياتين”، وكذلك الحجاز اليمني والمعروف بالحجاز الكبير، وهي جميعها مقامات تستخدم ثلاثة أرباع الصوت.
اما الاستثناء الذي يشكله مقام “النوا أثر” فمن المرجح أن يكون تأثر ببعض أشكال الغناء التركي أو العربي، مع وجود عرب ضمن الحامية التركية أو الموظفين خلال التواجد الأول أو الثاني. لكن حالة المطاردة التي واجهها الغناء اليمني والانقطاعات تسببت في فقدان الكثير من الألحان والتي ربما تطرقت إلى مقامات أخرى.
وإذا عدنا إلى كتاب “تيارات تجديد الغناء في اليمن” لجابر علي أحمد، فإنه يستشهد بما قاله الباحث اليمني أحمد مفتاح بأن زوامل كثيرة في حضرموت تؤدى على مقام العجم. كما أن الدكتور الأردني عبدالحميد حمام أشار في مؤتمر الموسيقى العربية المنعقد في القاهرة 2006، إلى أن بعض الأناشيد الدينية الصنعانية، تتضمن مقام “الفريجي”، والذي يتضمن جنسه الأول أبعاداً تتشابه مع جنس “النهاوند”. فهل يعود هذا النمط إلى تأثيرات كنسية تعود لفترة التواجد الحبشي، بحيث جرى استخدامه في الأغاني الكنسية المسيحية، وانتقل كشكل غنائي ديني لم يدخل ضمن الغناء الغزلي الذي شملته الموشحات الصنعانية؟
على أن استخدام مقام “العجم” في الزوامل الحضرمية ربما انتقل من المهاجرين الحضارمة الذين نقلوا أشكالاً مقامية من الهند أو من محيطهم العربي. وذلك ليس إلا مقاربة من باب التكهن، فالنظام الغنائي الذي انتقل شفاهياً لا يمكن تحديد زمنه، ويتطلب المزيد من البحث الميداني، كذلك معرفة المناطق التي تشيع فيها الزوامل الحضرمية على مقام العجم. أو أنها حالة شائعة، مرتبطة بكثير من المناطق.
على صعيد آخر، تعرف الغناء اليمني في عدن وحضرموت على مقامات مثل “النهاوند” و”العجم” و”الكرد”، والأخير نقله محمد جمعة خان من الأغاني الهندية. بينما في عدن ثم بقية المناطق اليمنية تعرف عليه اليمنيون من الغناء المصري. وكما اتبعت نقلاً حرفياً في الغناء العدني كما هو متبع في مصر، جرت عليه تضمينات محلية في حضرموت وبقية المناطق اليمنية. لكن سنعود إلى ما قاله جابر علي أحمد، حول أهمية دراسة تثير ما هو إيجابي وما هو سلبي في علامات التجديد الذي اتّبعه الغناء اليمني. ومع افتقاد هذا الغناء لجوانب نقدية واسعة، وتضمينات معرفية بعلم الموسيقى، فعلينا تضمينه تلك التعريفات والاتساع على موسيقى العالم ليكون هناك غناء يمني حديث يحتفظ ببعض أنساقه، مع أهمية تجاوز بعض الأنماط المُتبعة، لأن الموسيقى لغة عالمية، تنفتح على عناصر العالم وتهضمه في أنساقها الخاصة.
___________________
الصورة ل: عبدالرحمن الغابري
جمال حسن
كاتب وصحفي، يكتب في الأدب والموسيقى والسياسة. أصدرت له رواية "حشرات الذاكرة" عام 2014.