كأنك تخطو بقدميك في مدينة الرباط، لكن، بدلاً من البيوت والحارات والأزقة والعطارات ورائحة التوابل، سوف تفجؤك صفوف المرايا الممتدة إلى نهاية الأفق، على رمال صحراء المغرب الشاسعة، كمدينة عجائب لا تنتهي، مرحباً بك في المحطة الشمسية الأضخم في العالم: نور واحد !
في الساعة الثانية ظهراً بالضبط، يوم الرابع من فبراير الماضي، كان ملك المغرب، محمد السادس يضغط على زر معين، لتبدأ بعده المرايا الضخمة في الدوران، ثم تقوم الحرارة ببدء تدوير التوربينات، لتأتي هذه المدينة إلى الحياة لأول مرة.
قصة هذه المدينة العجيبة، بدأت عندما أدركت المغرب بوضوح أنها أكبر مستورد في الشرق الأوسط للوقود الأحفوري، وفكرت حينذاك، أنه ربما يتوجب على هذا الوضع أن ينتهي، وأن تجد خطة جديدة، ونظيفة، تنقذها من هذه المشكلة، وعندها بدأت قصة "نور"، إليك في هذا التقرير كل ما تحتاج لمعرفته عن المحطة الشمسية الأضخم في العالم، والتي تستطيع رؤيتها من الفضاء كما تظهر الصورة التي التقطتها ناسا من الفضاء:
نصف مليون مرآة تحدق في السماء
تقول الأسطورة إن "أرخميدس"، عندما قرر أن يدافع عن وطنه صقلية، ضد سفن الجيش الروماني واتته فكرة غريبة وجديدة، فطلب من الجنود أن يسرعوا بجلب المرايا ويحملوها بأيديهم، مسلطين ضوء الشمس الحارق على أشرعة السفن الغازية، وهنا، حدثت المفاجأة، عندما بدأت الأشرعة في الاحتراق، وكان أول استخدام في التاريخ لـ"طاقة الشمس المركزة"، كما تقول الأسطورة.
الفكرة استمرت بعد ذلك في النمو، فقد قام عالم يسمى أوجستين موتشاوت باستخدامها لإنتاج أول محرك بخاري يعمل بالطاقة الشمسية المركزة، كما كانت هناك تجارب أخرى تلتها، لمجمع طاقة شمسية، وأجهزة ري وتبريد تعمل بها أيضاً، حتى قام العالم جيوفاني فرانسيا بصنع أول معمل لتركيز الطاقة الشمسية عام 1968، ولا زالت معامل الطاقة الشمسية تبنى بنفس تصميمه حتى الآن.
المحطة الشمسية المغربية الأضخم في العالم، والتي تماثل في حجمها الواقع على مليوني متر مربع؛ حجم العاصمة المغربية الكبيرة؛ الرباط، كسرت الرقم القياسي السابق الخاص بمحطة "إيفانا" الأمريكية الموجودة في كاليفورنيا بصحراء موهافي بعدد المرايا الذي وصل إلى خمسمائة ألف مرآة، لكن، ليس في قدرة توليد الكهرباء المحتملة.
أنظمة الطاقة الشمسية المركزة، هي أنظمة تستخدم المرايا أو العدسات، لتركز مساحة كبيرة من ضوء الشمس على مساحة صغيرة، حيث تحول الطاقة الشمسية إلى حرارة، تقوم بتحريك مولد حراري، متصل بمولد طاقة كهربائية، وتعتبر هذه التقنية مع تقنية الخلايا الكهروضوئية، أهم تقنيتين للطاقة الشمسية في العالم حتى الآن.
وفي حالة المشروع "نور"، فإن مرايا القطع المكافئ التي يصل طولها إلى 12 متراً، تقوم بعكس أشعة الشمس وتركيزها على أنابيب مملوءة بسائل، يتم تسخينه بهذه الطريقة حتى درجات حرارة عالية جداً تصل إلى 390 درجة مئوية، وتحوي هذه الوحدة سائل نقل حراري يقوم بنقل الحرارة إلى مولد البخار، الذي يحول الماء إلى بخار ذي درجة حرارة عالية جداً، ثم يتم تمريره بعنف كافٍ لتحريك المولد الكهربائي، كما هو الحال تماماً مع محطات توليد الكهرباء التقليدية العاملة على الوقود الأحفوري.
الفترة الحالية تشهد تسويقاً واسعاً لتكنولوجيا "الطاقة الشمسية المركزة"، وقد شهد السوق العالمي إضافة 740 ميجاواط من الطاقة التي تم توليدها بهذه الطريقة، منذ عام 2007 حتى نهاية الـ2010، يدين العالم بأكثر من نصفها لعام 2010 وحده، ولدولة أسبانيا، التي استطاعت لوحدها أن تضيف للرصيد العالمي من الطاقة المولدة بهذه الطريقة، 400 ميجاواط في 2010 وحدها، و632 ميجاواط إجمالاً، أما الولايات المتحدة فقد شاركت بـ509 ميجاواط.
الشرق الأوسط لم يكن غائباً عن المشهد، فقد قامت أبو ظبي بتدشين مشروع لمحطة شمسية كانت تخطط أن تجعلها الأكبر في العالم، وقامت بتسميتها "شمس 1"، لكن المغرب تفوقت عليها بمشروعها الحالي الذي قامت بتسميته "نور".
تكلفة بناء محطة بالطاقة الشمسية المركزية، يكلف في العادة من 2.5 دولاراً إلى أربعة دولارات للواط الواحد، بينما الوقود في هذه الحالة مجاني، لأنه يعتمد على الشمس، وبالتالي، فإن محطة ذات قدرة 250 ميجاوط، تكلف من 600 إلى 1000 مليون دولار، وهي على قدم المنافسة الاقتصادية مع محطات الكهرباء المعتمدة على الوقود الأحفوري، فقد قال محلل الطاقة الشمسية "ناثانيال بولارد"، أنه قام بحساب تكلفة الكهرباء في محطة "إيفانا" الشمسية، الموجودة في جنوب كاليفورنيا، ووجد أنها تكلف أقل من تكنولوجيا الخلايا الكهربية الضوئية، وأقل كذلك من الغاز الطبيعي، وبالرغم من ذلك، فقد أعلنت شركة جوجل في نوفمبر 2011 أنها لن تستثمر في مشاريع الطاقة الشمسية المركزة بعد الآن، بسبب الانخفاض المستمر في أسعار خلايا الطاقة الكهربية الضوئية.
كيف تحول المشروع إلى حقيقة؟
في احتفال الافتتاح الذي جرى في "أورزازات" على حواف صحاري المغرب الواسعة، كانت وزيرة البيئة الفرنسية سيجولين رويال، أحد كبار الشخصيات التي تنظر بترقب إلى لحظة تشغيل المفتاح، في المحطة الضخمة، ضمن المشروع الدولي الذي ما كان ليتحول إلى حقيقة إلا، بسبب تبني دول كثيرة كبيرة للحلم الوليد.
فصحيح أن تكنولوجيا الطاقة الشمسية المركزة عالية التكلفة، ما يكاد يكون مستحيلاً على دولة نامية مثل المغرب لوحدها، لكنها قامت بالحصول على أكثر من 3 مليارات دولار من التكلفة المطلوبة لبناء سلسلة محطات نور، من البنك الأفريقي للتنمية، وصندوق الاستثمار في الأنشطة المناخية، بالإضافة إلى مؤسسات التمويل الأوروبية والبنك الدولي، بحصة بلغت واحد مليار دولار من بنك الاستثمار الألماني KfW، مع 596 مليون يورو من بنك الاستثمار الأوروبي، و400 مليون دولار من البنك الدولي.
وقد قالت ماري فرانسوا ماري نيلي، المديرة القُطرية للبنك الدولي في المغرب، أنه مع هذه الخطوة الجريئة من المغرب نحو مستقبل الطاقة النظيفة، فإنها تسير نحو مستقبل أكثر اخضراراً، كما إنها تطور تكنولوجيا الطاقة الشمسية، مضيفة إن عائدات هذا الاستثمار سوف تكون مهمة للدولة ولشعبها، حيث إنها ستوفر لهم أمن الطاقة، مع بيئة أنظف، كما ستشجع الصناعات وفرص العمل.
إدارة المشروع تقوم على قيادة سعودية لفريق من الشركات، بعد أن فازت بعقد لبناء وتشغيل المصنع في 2012، حيث تقود الشركة السعودية "أكوا باور"، الفريق الذي يضم شركات Aries Ingenieria y Sistemas، مع شركة TSK Electronica y Electricidad من أسبانيا، وسوف يعمل نفس الفريق على مشروعي نور 2 ونور 3 القادمين.
ما الذي ننتظره من نور؟
يتوقع أن توفر محطة "نور 1" الكهرباء من شروق الفجر حتى ما بعد الغروب بثلاث ساعات، لأكثر من مليون شخص مع نهاية بنائها في 2018، حيث تقدر التوقعات كمية الكهرباء التي ستنتجها بـ160 ميجاواط، من إجمالي سعة قصوى تقدر بـ580 ميجاواط عندما تنضم إليها المحطتان الشقيقتان نور اثنان ونور ثلاثة، وهو الشئ الذي سينقذ المغرب من مئات الآلاف من أطنان الانبعاثات الكربونية السامة سنوياً.
وتخطط المغرب، التي تعد أكبر مستورد في الشرق الأوسط للوقود الأحفوري، أن تولد نحو 42 بالمئة من احتياجاتها من الطاقة، من المصادر المتجددة بحلول العام 2020، بحيث تحصل على الثلث من الطاقة الشمسية، بينما تحصل على البقية الباقية من طاقتي الرياح والطاقة المائية، وتأمل أن تعلن في مؤتمر المناخ القادم الذي تستضيفه في نوفمبر القادم، عن خطة أكثر طموحاً ترفع حصولها على الطاقة من المصادر المتجددة إلى 52 بالمئة بحلول العام 2030.
مافالدا دوارتي، مدير صندوق الاستثمار في المشاريع المناخية، والذي قام بدعم المشروع بحوالي 435 مليون دولاراً من تكلفة التسعة مليارات، قال إن هذه المشروع مهم جداً، جداً في أفريقيا، مضيفاً إن المغرب تقوم بدور رائد في هذه التكنولوجيا ومحاولات خفض تكلفة عملية تشغيلها، فالمغرب كانت تدرك أن احتياجاتها للكهرباء تزيد بمقدار 7 بالمئة كل سنة، كما أدركت بوضوح أيضاً أنها كانت تستورد 97 بالمئة من هذه الطاقة، مع زيادة أسعار النفط وعدم استقرارها، وهو الشئ الذي كان الدافع الأكبر لها للتحرك نحو بناء "نور"، وقد كان هذا "عملاً رائعاً" كما يقول دوارتي.
ويتوقع المحللون والباحثون أن يكون لهذا المشروع آثار إقليمية وعالمية، حيث يقدر القائمون على صندوق الاستثمار المناخي، بأنه إذا قامت البنوك والحكومات بمد الطاقة الشمسية المنتجة مقدار خمسة جيجاواط أخرى، فإن تكاليف إنتاج الكهرباء قد تهبط بمقدار نسبة تصل إلى 44 بالمئة.
وإذا سارت الأمور كما يجب، وتحقق حلم مهندسي المشروع الضخم، فإن أثر "نور" سوف يمتد إلى أكثر مما نتخيل، لتصدر الكهرباء الناتجة شمالاً إلى أوروبا، وشرقاً إلى مكة المكرمة، بالإضافة إلى توفير مصدر آمن للطاقة في منزلك الشخصي؛ بيرتراند بيكر، صاحب الطائرة الشمسية "سولار أمبلوس" يقول معلقاً في تغريدة معبرة له: "فيما يتكلم الكثير من الناس، يفضل المغرب العمل. وها هو يفتتح أكبر محطة للطاقة الشمسية في العالم."