المقاومة الشعبية

تعز.. صمود لا ينسى أمام جرائم الانقلاب

طوال الأزمة والحرب في اليمن، كانت محافظة تعز في قلب المشهد المضطرب والمتأجج في البلاد، بعد انقلاب جماعة الحوثي والمخلوع صالح على الشرعية، فهي خاصرة البلاد ومدخل شمالها إلى جنوبها ومدخل جنوبها إلى شمالها، في آن واحد، ولطالما اعتبرت المخزون البشري للبلاد والمنبر السياسي والثقافي المميز لها، والقلب النابض المتأثر والمؤثر دوماً في الأحداث.


لعبت تعز طوال تاريخها ذلك الدور المؤثر، الذي لطالما غير مجرى الأحداث في اليمن عموماً، في مراحل تاريخية كثيرة، وكانت المدينة و«المَدَنية»، التي شكلت الترمومتر الأول للتفاعل مع الأحداث والتطورات والقائد لمآلاته المقبلة بانتصاراته وانتكاساته، لهذا ظلت على الدوام المؤشر لجانب كبير من مستقبل البلاد.

 

تمتد محافظة تعز في المرتفعات الجنوبية للبلاد، ومدينة تعز هي مركز وعاصمة المحافظة، تقع في سفح جبل صبر الذي يبلغ ارتفاعه نحو 3000 متر، فيما تبعد عن العاصمة صنعاء 256 كم، غير أن قربها من مدينة عدن، يجعلها أكثر التصاقاً بجنوب البلاد لجهة التقارب الحضاري والاندماج. 
تمثل محافظة تعز أكبر محافظات اليمن سكاناً، ويبلغ تعداد سكانها ستة ملايين ونصف المليون نسمة، فيما يبلغ سكان عاصمتها التي تحمل الاسم نفسه، قرابة ستمئة ألف نسمة، وفيها تعمل قاعدة صناعية مميزة للقطاع الخاص من أبناء المحافظة، ترفد البلاد بالكثير من منتجاتها. 


يقول الباحث فيصل سعيد فارع، وهو ابن أصيل لتعز، «ندرك قيمة موقع مدينة تعز إذا وضع في الميزان، حيث هو من المواقع العقدية المهمة، كونه يشرف على جميع الطرق الواقعة في شرقه وغربه وشماله، ممّا سهل الانتقال منه إلى أي جهة وإليه من أيِّ جهة، إنه منطقة ومجمع التقاء الجبل والسهل والصحراء والموانئ عن جنوبه وغربه، ولم تكن عواصم بعض الدول اليمنية في أطوارها القديمة والإسلامية، كظفار وجبا وزبيد وذي جبلة والمقرانة لتبتعد كثيراً عن مدينة تعز، رغم وقوع أخريات أقدم منها وتتزامن معها في إطار إقليمي مختلف، وحيث الانتقال فيما بين هذه العواصم حكمته اعتبارات طبيعية واقتصادية وسياسية. فموقع تعز إذاً كان كأنما اليمن كله على ميعاد معه وفيه».


ويقول فارع، إن التغيرات التي طرأت على المدينة والهويات السياسية المتحولة فيها، ساعدت على تحديث مجتمعات المدينة والنطاق، مما أسهم في تقديم مجتمع تعز مجتمعاً منفتحاً فكرياً مؤثراً في التاريخ السياسي والاقتصادي والثقافي لليمن بانخراط أعضائه في السياسة والتجارة والتعليم والصناعة... إلخ. 


لعبت تعز دوراً مهماً عبر تاريخ اليمن في المراحل القديمة والإسلامية والمعاصرة، وبلغت أوج مجدها عندما كانت عاصمة للدولة الرسولية (1229 - 1454)، تلك الدولة التي استطاعت بسط سيطرتها على اليمن بكامله. في التاريخ الحديث والمعاصر كانت المدينة منبراً لكل الأحرار والمتطلعين للمدنية والتحضر، خاصة في فترة حكم الأئمة، الذي انتهى في سبتمبر/‏أيلول 1962، وخاض رجالها نضالاً مريراً في سبيل ذلك وعانوا مرارة الهجرة منها بسبب مواقفهم من ظلم الأئمة آنذاك، وبعد ثورة سبتمبر التي بشرت بنظام جمهوري، كما شكلت الخلفية والحاضنة لمناضلي حرب التحرير في جنوب اليمن من الاستعمار البريطاني، وكانت منطلقاً لتجمعاتهم وموقعاً لتدريباتهم وتجهيزاتهم المسلحة.


شارك أبرز قادتها من السياسيين ورجال المال والاقتصاد والمثقفين والعسكريين، وعلى قلة للأخيرين، في الوقائع التاريخية المفصلية في التاريخ السياسي لليمن الشمالي، قبل الوحدة، وكانت أدوارهم حاسمة، ووقع الكثيرون منهم في ضيم منظومة حكم المخلوع صالح، كما وقعت مدينتهم، على خلفية الإقصاء والتهميش والمناطقية، والخوف من حركة تنوير ومدنية متنامية لم تتوقف، وتعتمد على إرث ثقافي وحضاري عظيم، حيث ينتشر أبناء تعز في عموم محافظات البلاد للعمل والتعليم، وهم يعدون أكثر المتعلمين في البلاد.


ويعد التعليم من أقدم الخدمات التي قدمت في تعز منذ عهد الدولة الأيوبية، وأصبحت السمة الأبرز في الدولة الرسولية (1228 - 1454)، حيث ازدهرت فيها الحياة العلمية وكان ملوكها يهتمون بنشر العلم وبنوا مدارس متعددة في عاصمتهم تعز وحواضرهم وقراهم، وشاركهم هذا الاهتمام أمراؤهم وكبار رجال دولتهم ونساؤهم وهي كثيرة ومنها: مدارس المنصورية، المظفرية، المؤيدية، المجاهدية، الأفضلية، الأشرفية، الظاهرية، الغرابية والمعتبية وغيرها.


وتنوعت المؤسسات التعليمية في تاريخ اليمن الإسلامي، فكانت هناك الكتاتيب أو «المعلامات» والمساجد والمدارس وكذلك الأربطة والزوايا والخوانق ودور الضيف، وغيرها من أماكن التعلم كمجالس العلم التي كانت تقام في منازل العلماء أو قصور ملوك بني رسول. ويُسجل أن التعليم النظامي الرسمي الحديث بدأ بمحافظة تعز عام 1935. وبالتالي ليس مبالغة أن تصنف تعز كعاصمة ثقافية للبلاد، فهي فعلاً كذلك، لكن ظل اعتماد تسميتها كذلك مواساة سياسية، ليس إلا، يغيب عنها فعل حقيقي لتأهيلها لهذا التصنيف، غير أن ذلك لا ينتقص من قيمتها الثقافية الحقيقية، وامتلاكها لقدرات إبداعية وثقافية مشهود لها، وهي المدينة التي تضم عدداً كبيراً من الآثار الهامة كالمدارس الدينية والمساجد والقلاع، منها جامع الجند التاريخي وقلعة القاهرة، والمدارس الأثرية كالمظفرية والمدرسة الأشرفية والمدرسة المعتبية، وفي التاريخ المعاصر مؤسسة السعيد للعلوم والثقافة.


تعاضدت عوامل عدة لتكتسب تعز والمعركة فيها بكل تجلياتها، أهمية قصوى، طوال الأزمة والحرب، فالثقل السكاني والسياسي والثقافي والاقتصادي والاستراتيجي يدفعها باستمرار إلى الواجهة، وهي أول من أوقد شرارة الثورة الشبابية الشاملة على نظام حكم علي عبد الله صالح في فبراير/‏شباط 2011، الذي أحاطها منذ بداية حكمه للشطر الشمالي لليمن، بعدد كبير من معسكراته والألوية العسكرية الموالية له، بل وزرع معسكراته وقواته الأمنية وسط المدينة. 


بعد مدينة عدن كانت تعز الثانية التي شهدت الفصول الأكثر دموية في حرب الانقلابيين، بل وفاق الأمر وبلغ ذروته بعد حصارها من قبلهم منذ عشرة شهور، لتبلغ المأساة مداها ويحل الدمار في مبانيها ولتسجل الآن المدينة الأكثر تضرراً من حرب الانقلابيين والمتمردين على الشرعية في البلاد.


منذ بداية تحرك مليشيات صالح والحوثي الانقلابية وعزمها في مارس/‏آذار 2015 التحرك نحو مدن جنوب البلاد لاقتحامها، كانت تعز تقف لترفض ذلك، ووقفت في وجه عبور تلك القوات المتسللة، وعكست مواجهات محيط معسكر قوات الأمن المركزية في المدينة مثالاً صارخاً لهذا الموقف، ونصب الشباب المحتجون من أبناء المدينة في نهاية مارس 2015 خيمة اعتصام بالقرب من بوابة معسكر القوات الخاصة بعد مواجهات بين المتظاهرين والقوات الخاصة، التي أسفرت عن قتلى ومصابين مدنيين، بعد تظاهرات شارك فيها الآلاف كانت تجوب شوارع مدينة تعز للتعبير عن رفض المحتجين دخول قوات عسكرية من مليشيات صالح والحوثي.

 

لم تفلح جهود السلطة المحلية حينها في تهدئة الوضع، وكان من الواضح أن الانقلابيين سيمضون في تحركاتهم والسيطرة على المدينة فأرسلوا تعزيزات عسكرية جديدة إلى معسكر القوات الخاصة ونشروا نقاط التفتيش العسكرية تحت غطاء أمني، لينتقل التوتر لاحقاً إلى ضواحي مدينة تعز، وهكذا شهدت مناطق الحوبان والقصر والراهدة والتربة تظاهرات مناهضة لمليشيات صالح والحوثي الانقلابية وعدم السماح بدخولها إلى محافظة تعز.


في الأثناء أعلن اللواء «35» المرابط في تعز الولاء للرئيس الشرعي عبد ربه منصور هادي، وتصاعدت الأنشطة والفعاليات الشعبية المناهضة لتواجد الميليشيات في تعز خلال شهر إبريل/‏نيسان 2015، غير أن التواجد القسري للمليشيات، رغم مظاهر الرفض الشعبي استمر بفعل القوة العسكرية والقمع.


وشهدت تعز آنذاك مسيرات شعبية حاشدة يومية مؤيدة للشرعية الدستورية و«عاصفة الحزم» ومناهضة للانقلابيين، كما انتشرت وبشكل لافت في الكثير من المحلات والمعارض وواجهات الشوارع العامة صور متفاوتة الأحجام لقادة دول مجلس التعاون الخليجي، بل خرجت في مدينة تعز، مطلع إبريل/‏نيسان 2015، تظاهرة شعبية رفعت شعار رفض الحرب على الجنوب، التي تشنها قوات الرئيس المخلوع صالح ومسلحي الحوثي.

 

وكان الآلاف في محافظة تعز تظاهروا قبل مارس/‏آذار 2015 تأييداً لشرعية الرئيس عبد ربه منصور هادي، والبيان الذي أعلنه من محافظة عدن الذي دان فيه انقلاب الحوثي على الشرعية، وجاب المتظاهرون شوارع المدينة «وطالبته بإعلان عدن عاصمة مؤقتة لليمن وإعلان صنعاء عاصمة محتلة»، ورفعوا «لافتات كتب عليها عبارات تؤكد استمرار العملية الثورية لمواجهة الانقلاب الحوثي وإسقاطه». كما طالبوا هادي آنذاك في بيان لهم، «ممارسة مهامه رئيساً للجمهورية بما يحقق استعادة الدولة وإسقاط الانقلاب وتحرير العاصمة، كما طالبوه الإسراع بتنفيذ مخرجات الحوار فيما طالبوا النائب العام ملاحقة العصابات الحوثية لارتكابها جرائم قتل واعتقال ونهب خارج إطار القانون».
يوم السادس من إبريل/‏نيسان 2015 قُتل سبعة من مسلحي جماعة الحوثي في كمين مباغت في منطقة «الراهدة» بمحافظة تعز، الأمر الذي عُد تدشيناً للمقاومة الشعبية المسلحة بالمحافظة التي بدأت تشهد تصعيداً يومياً في مناهضة للانقلابين، غير أن صلف الانقلابيين ومخططهم دفعهم إلى نشر مسلحيهم ودباباتهم وآلياتهم العسكرية الثقيلة في شوارع رئيسية وفرعية عدة بتعز، واعتقلوا عدداً من الناشطين الشباب المناهضين لهم. 


وفي التاسع من إبريل/‏نيسان 2015، أكد بيان صادر عن حلف قبائل وأبناء الحجرية في محافظة تعز، أن قبائل تعز والحجرية «ستواصل دعمها للشرعية ممثلة بالرئيس عبد ربه منصور هادي الذي اضطر لمغادرة البلاد أمام سعي من مقاتلي جماعة الحوثي وقوات علي صالح للسيطرة على «عدن». كما أعلن البيان أن قبائل تعز تدعم عملية «عاصفة الحزم» التي تقودها السعودية ودول مجلس التعاون الخليجي لمساعدة الشعب اليمني على استعادة الدولة المختطفة ومساندة الشرعية الدستورية، ووقف التمدد للانقلابيين الحوثيين بالبلاد. وبالتزامن أعلنت مكونات شبابية وشعبية بمديرية «الموازعة» تدشين ما وصفته بالكفاح المسلح لطرد الحوثيين من تعز، وقطع طريق الإمدادات الذي يربط تعز بعدن ودعم الشرعية الدستورية في البلاد ممثلة بالرئيس عبد ربه منصور هادي.


تدريجياً تسارعت حالة التوتر في محافظة تعز، مع استمرار التحركات الاستفزازية للمليشيات، وفشلت اللجنة الأمنية بالمحافظة بمعية جهود الشخصيات الاجتماعية والبرلمانية والسياسية في نزع فتيل التوتر الأمني لتندلع الاشتباكات مع استحداث نقاط أمنية من قبل الأهالي والمقاومة المتشكلة تدريجياً، ورفض الميليشيات الخروج من عاصمة المحافظة تعز. وأقدمت الميليشيات للسيطرة على مقر اللواء 35 مدرع الموالي للشرعية في اليمن، إثر مواجهات عنيفة بعد ساعات فقط من إعلان توقف عمليات عاصفة الحزم يوم 22 إبريل/‏نيسان 2015، ليتصعد الموقف العسكري أكثر.


وهكذا تحولت المقاومة المسلحة لعدوان مليشيات الحوثي وصالح لدى الكثير من أبناء محافظة تعز، إلى خيار اضطراري فرضه تصاعد انتهاكات الانقلابيين واستهدافهم للأحياء السكنية في يوميات المواجهات المحتدمة التي دارت رحاها في شوارع المدينة، رغم وجود قلة من ارتبطت مصالحهم بالانقلابيين واصطفوا إلى جانبهم وباتوا يُعرفون بالمتحوثيين. ودخلت المدينة في مواجهات كر وفر وحرب شوارع تبادل فيها الطرفان المقاومة والمليشيات السيطرة على الشوارع والأحياء، في ظل استمرار الأخيرة بفرض حصار خانق على المدينة شمل كل ضروريات الحياة، حتى تمكنت قوات الجيش الوطني والمقاومة بإسناد من قوات وطيران التحالف من تحقيق الانتصار العسكري الملفت يوم 11 مارس/‏آذار 2016 بتطهير الجبهة الجنوبية الغربية للمدينة وفك الحصار عنها جزئياً.