من قال إن مصر خرجت خالية الوفاض من مونديال روسيا؟ من قال إنها خسرت؟ نعم، خسر الفريق المصري المباريات التي لعبها حتى الآن، لكن مصر خرجت رابحةً، والفريق نفسه لم يخسر احترام الجمهور، أو بمعنى أدق جمهور الوطنية المصرية الحقيقية الذي يضع رياضة كرة القدم في حجمها الطبيعي، وإطارها الصحيح، لا جماعات المنتفعين من مناخ الرداءة والبذاءة، وعصابات أثرياء الاتجار في الانحطاط والابتذال.
المهزوم في روسيا هو سياقٌ عام من التضليل والعشوائية والفهلوة والاحتيال بالصور اللامعة والعناوين البراقة.
الذي انهزم في روسيا هو منهج عبد الفتاح السيسي في الحكم والإدارة: كثير من الضجيج والبهرجة، ولا شيء من الفعل والإنجاز.. كثير جداً من الكذب الملوّن الذي يخطف الأبصار، ولا شيء من الحقيقة.
ولعل هذا ما يثير الفزع في أروقة السلطة الآن.. أن تشاهد منظومة الابتذال التي صنعتها، وأنفقت عليها، واستثمرت فيها ببذخ، تتهاوى وتنهار، وينكشف سترها، ليفيق المواطن المصري على حقيقةٍ ساطعة: إنهم يتاجرون بمنتخب الكرة في سوق الشعوذة السياسية، طارحين أسوأ منتجات الوطنية الفاسدة في الساحة، باعتبارها نموذج الانتماء الكامل والولاء الحقيقي للوطن.
أكبر مكاسب مصر (الحقيقية) أن التعويذة الملوثة بكل عوادم النصب والإسفاف والتضليل قد أبطل مفعولها، وأن الشعب رأى بنفسه سقوط الأساطير، وشاهد الأكاذيب تتبخّر، ويطير دخانها في الهواء، ويلمس بنفسه كيف يتحول دافع الضرائب المطحون إلى بقرةٍ يحلبها الدجالون يومياً كي ينفقوا منها على مهرجانات الخرافة، وكيف أن المسألة كلها ليست إلا استمراراً لعمليات الابتزاز باسم الوطنية المزيفة.
تاريخياً، قد يحيلك المشهد الحالي إلى ما جرى على وقع طبول حرب الكرة بين الجزائر والقاهرة وأم درمان، قبل تسع سنوات، حيث واحدةٌ من المساخر فى تاريخ مصر تسابق فيها مهرجون ونصابون ومحترفو خطف الأضواء، وباحثون عن أدوار فى ملفات حساسة (التوريث مثلا) وتجار أعلام وإعلام ممن أوسعوا مصر حبا عنيفا، حتى أظهروها أمام العالم في صورةٍ لا تليق بتاريخها.
غير أن الحاصل الآن يشي بأنهم عبروا من مرحلة ابتذال الوطنية، وابتذال كرة القدم، إلى مرحلة ابتذال الابتذال نفسه، بما يبدو معه سيناريو ما فعله ابنا حسني مبارك، و"رجل أعمال سياسات النظام"، أحمد عز، شيئاً أكثر احتراماً وتماسكاً مما جرى في روسيا، فعلى الرغم من أن المنهج واحدٌ في الحالتين، إلا أن الإخراج الراهن صار مقزّزاً إلى أقصى درجة، ففي الحالة الأولى كان الابتذال وسيلةً وأسلوباً، وفي الثانية أصبح غاية وعقيدة.
في فساد مرحلة حسني مبارك، لم يكونوا يقتلون الجمهور، ثم يعتبرون التشجيع فريضةً، بل كانت هناك إدارة واعية للابتذال، تنجح في إيهام جمهور كرة القدم بأنه عنصرٌ مهم في اللعبة، اللاعب الثاني عشر في الفريق، أو كما يصعد به آخرون إلى مرتبة اللاعب رقم واحد من حيث الأهمية.
تلك العلاقة بين السلطة وجمهور الكرة دمرت تماماً مع هيمنة العسكريين على السلطة، في أعقاب ثورة يناير 2011 التي عرفت دوراً رائعاً لمجموعات مشجعي الكرة وروابطهم، فكانت عمليات الانتقام التي لم تتوقف حتى اليوم، فسالت دماء الجماهير على العشب الأخضر، ثمناً لنزوات سياسية حمقاء، تطوّرت إلى جرائم دموية، اتخذت شكل المذابح الجماعية، كتماً للغضب وإجهاضاً للثورات.
معهم باتت مصر تنفرد بأنها الدولة الوحيدة في العالم التي تقتل جمهور كرة القدم الحقيقي وتسجنه وتمنعه من دخول الملاعب المحلية، ثم تعتبر تشجيع المنتخب في الخارج عيداً وطنياً، للمقتدرين، ولمن تجيّشهم السلطة لرسم صورة فاقعة الألوان لمهرجانات الوطنية الزائفة، تستخدم فيها الوجوه التي لا تتغير، مجموعات من أهل الفن والطبل الإعلامي، يشحنون عبر جسر جوي، يقدّمون وصلات الإسفاف ذاتها، مبتذلين المشهد من مباراةٍ لتشجيع الفريق القومي إلى مهرجانٍ لتمجيد الاستبداد، فتكون المحصلة، كما رأيت في روسيا، ابتذالا لمعنى الوطن وابتذالا لكرة القدم وابتذالا للفن وابتذالا للتاريخ الفرعوني ذاته، بكلمةٍ واحدة هزيمة حضارية، تقابلها ردود أفعال عفوية تعبر عن وطنية حقيقية، وتنعش الأمل في وعي هذا الشعب.
نعم، حين ينهزم الابتذال على مرأى ومسمع من الجميع، فإن قيماً أخرى، محترمة، تنتصر وتعلو.