سيقودك السؤال عن أصالة العسل اليمني، لا إلى الجواب الذي يفاخر أبناء هذي البلاد بترديده، كلما طنّت في الأفق نحلة، وإنما إلى التساؤل أولاً، كيف للنحل أن تتخذ من الجبال بيوتاً، ومن الشجر، ومما يعرشون، بل كيف لها أن تسلك سبل ربها ذللاً، في أرض يهزّها دوي البارود، وما عاد الملايين من بنيها يجدون قوت يومهم، ولا يعثر الناس، بين أوديتها، على ما يشفيهم من أوبئةٍ فتاكةٍ تبطش بهم، أحدها الكوليرا، وليس أقلها خطراً غدرُ الإخوة الأعداء.
كنت هناك، في اليمن، منذ نحو ست سنين، ولم أكن لأنسى يوماً، حلاوة مذاق عسلها، أو مرارة عيش أهلها، غير أن زميلتي في قناة الجزيرة، غادة عويس، وقد شاركتها آنذاك رحلة تغطية الانتخابات الرئاسية اليمنية التي وصل الرئيس عبد ربه منصور هادي، بموجبها، إلى كرسي الحكم، بديلاً من سلفه علي عبد الله صالح، نشرت قبل أيام "تغريدةً" على صفحتها في "تويتر"، تدعوني، أو لعلها تقرع جدران ذاكرتي، بيدٍ تحمل إناءَ شهد مُعَتَّق، لأقول شيئاً من وحي احتفاظه، إلى الآن، بصفاته التي كان عليها حين اشتريناه معاً من صنعاء.
وإذ ترددتُ في أن أدلي بدلوي، فليقيني من أني إذا فعلت، فسأستعيده، أمام الملأ، يطفح بما لا يسرّ صديقاً، ولا يغيظ عدواً، بعد سبعٍ عجاف مرّت على اليمن، وما انفكّت أسراب الزنابير، وجيوش الدبابير، خلالها، تغزو خلايا النحل، وتشرّده في قِفَارِ الموت عطشاً وجوعاً.
لكن ذلك، لم يَحُل دون أن أغالب، ابتداءً، عناد الواقع، لأستحضر بحنينٍ، ثم بألم، على التوالي، صورتين بالغتي الدلالة، من تجربتي اليمنية المتواضعة، أولاهما تحكي طيبة اليمنيين، وبساطتهم، مثلما خبرتها وأنا أشاركهم طقوس حياتهم اليومية، بما فيها تناول حلواهم الأشهر، الموز مغموساً بالعسل، عقب كل وجبة غداء، وطبعاً قبيل حلول موعدهم اليومي مع تعاطي نبتة القات، أو تخزينها، وفق تعبيرهم، أما الثانية فهي التي تفصح عن دوافع الثورة على نظام صالح، بكشفها تُعس حال الناس، والشوارع، والأبنية، والخدمات، كما شاهدته، وظل يصدمني، على طول الطريق الممتدة من مطار صنعاء إلى ساحة التغيير، وفي كل حارةٍ من حارات العاصمة.
وحدها بئر الذكريات، إذن، هي التي ربما تعود الدِلاءُ منها ببعض العسل القديم، وإن خالطته دموعٌ باقيةٌ من الفرح بالثورة السلمية المولودة في غابة السلاح، والموءودة لاحقاً بمعاول الأشقاء وأبناء العمومة الأقربين، ووحدها بئر التاريخ هي التي ربما تعود الدلاءُ منها بقطرات الحكمة اليمانية الغابرة، وإنْ نقضتها سيول الحماقة اليمانية الراهنة، تفضح نفسها، سياسياً، بتشتت ولاء النخب القيادية في البلاد لحساب دول الجوار الإقليمي، وتبلغ ترجماتها، اجتماعياً، حدَّ اختلاف المعقبين رداً على "تغريدة" غادة عويس، بين من يقولون إن العسل الحضرمي أجود من نظيره اليمني، ومن يقولون العكس، قبل أن يتطوّر جدالهم العبثي إلى عراكٍ كلامي ساخن، وتبادل اتهاماتٍ مقذعة، اتسعت لتطاول مختلف الانتماءات الجهوية والقبلية، وغابت عنها، كالمعتاد، هوية اليمن الواحدة.
ألا من مبلغ أولئك وهؤلاء أن عسل بلادهم، أياً كان منشؤه، يظل مجرد تفصيلٍ في سوق جيرانهم الأثرياء الباحثين عن رفاهية الغذاء، أو قوة الباه، وإن أصالته التي ما زال يحتفظ بها منذ اليمن السعيد، لا ترمز إلى شيءٍ قدر ما تعيد التذكير بأنهم، وعلى النقيض منه، أوغلوا ابتعادا عن تاريخٍ كان أسلافهم فيه يقودون شبه الجزيرة العربية، وها هم يبلغون منحدراً صار فيه قادتهم رهائن، أو حتى عبيداً للغزاة، وصارت موانئهم البحرية وثرواتهم المادية، وتراثهم الحضاري، مطمعاً لبغاث يستنسر.
نعم، أيها اليمنيون، من المهرة إلى الحديدة، ومن صعدة إلى لحج؛ في البدء كان العسل، ولكن..
ماجد عبد الهادي