لست مضطرا لكثير عمل، ولا لغربة تسلب أمانك النفسي، ولا عُمرٍ تفنيه في الكد والشقاء لتنال حياة كريمة، فكل ما عليك فعله هو الإمساك بهاتفك، والاتصال بالأرقام المرادفة لبلدك، ثم إجراء المكالمة لتدير مع المذيع حوارا ستكسب على إثره دولارات ستغير حياتك!
وفي مشهد ليس ببعيد عن سابقه، وبانتظار ضربة حظ -غير معروفة الآلية- سيُسحب اسمك من بين مئات الأسماء لتربح سيارة الأحلام أو رحلة المتعة حول العالم، إلى آخر تلك المحفزات المغرية التي تتيح لتلك البرامج والقنوات العازفة على وتر المال وشهوته لاصطياد متابعيها. فـ"شاشة التلفاز ليست من عالم آخر، إنما هي قنوات يبحث مالكوها عن الربح، شأنهم شأن جميع البشر"[1].
البرامج تلك، تطرح أسئلة عدة حول عوامل انتشارها في مختلف القنوات التلفزيونية، وأسباب إقبال الناس المضطرد عليها، أحد تلك الأسئلة يتمثل حول المنفعة التي تحصل عليها تلك المسابقات من اتصالات المشاركين حتى تلقي إليه بكل تلك الأموال، والثاني هو عن الدافع الذي يقود الفرد إلى تصديق تلك الدعاوى، والمقامرة باتصالات ورسائل تكلّفه أموالا لن تعود في غالب الأحوال، لأجل احتمالية الفوز من بين آلاف المشتركين.
اتصل لتربح.. فأربح أنا
في كتابه "سيكولوجية المال"، يحلل "أكرم زيدان" الدوافع النفسية للبحث عن المال، فيجمعها في عدد من النظريات، على رأسها نظرية التحليل النفسي لـ "سيجموند فرويد" التي يبين فيها دوافع جمع المال على أقسام عدة أهمها: الإحساس بالأمن، والشعور بالقوة، كما ترى النظرية السلوكية أن الأهداف الرئيسية لجمع المال تتركز في كونه يمثل الدعم الفعلي للإنسان في حياته الواقعية.
بالنظر إلى تلك الدوافع، فإنها الوتر الذي يلعب عليه مالكو تلك القنوات وصانعو برامجها المذكورة لتحقيق أكثر الأرباح الممكنة عبر أقصر الطرق، وهي ذاتها التي تحرك المتصل، الذي سيفقد أموالا بسيطة بصورة مؤكدة في سبيل مكسب كبير محتمل، وهو ما يجعل من ملايين الاتصالات والرسائل المتدفقة مكاسب فائقة السرعة للقائمين على المسابقة.
لكن كيف يتم ذلك؟ "عندما يقوم المشارك بإرسال رسالة نصية قيمتها 5 ريالات سعودية. يأتيه الجواب سريعا برسالة ترحيبية، ثم بسؤال أول، فثانٍ، وثالث، ورابع، إلى ما لا نهاية له من الأسئلة التي توهم المشارك بتسلق سلم درجات المسابقة للظفر بالجائزة". إنه "تسويق الوهم عبر ماكينة إعلامية ووجوه رياضية، وجمع الملايين دون رقيب"[2].
قناة "MBC" مثلا -حسب موقع "دنيا الوطن"[2]- عندما كانت تبث من العاصمة البريطانية، كانت حينها تحت رحمة القانون البريطاني الصارم، وتقع معاملاتها المالية تحت عيون خبراء الضرائب الذين يحسبون الأرباح سنتا سنتا، وعليه، لم تكن القناة متجهة نحو هذا النوع من المسابقات بصورتها الحالية، نظرا لما يترتب عليها من مساءلات قانونية.
وهو الأمر الذي بات مأمونا بصورة أكبر بعد نقل البث تجاه "دبي"؛ لأنه -وحسب الموقع ذاته- فإن الاتفاقات تتم سرا بين شركات الاتصالات والقناة، مما يجعل الأرباح غامضة ومستورة بلا شفافية تصبغ هذا النوع من المسابقات.
انعدام الشفافية تلك، لم يكن عائقا أمام انتشار تلك البرامج وتوسعها، فبحسب بعض الإحصائيات العربية، فإنها تشير إلى أن برامج المسابقات هي الأعلى مشاهدة في الدول العربية، خصوصا في أوقات الذروة. كما كشف استطلاع أجراه مركز بحوث الرأي العام بكلية الإعلام في جامعة القاهرة أن نسبة مشاهدة برامج المسابقات بلغت 37.5٪ من العيّنة، منها 18.7٪ يشاهدونها بصفة منتظمة، و13.4٪ أحيانا، و5.3٪ نادرا. كما تشير إحصاءات -غير رسمية- إلى أن ما ينفقه السعوديون وحدهم على الرسائل النصية المرسلة للقنوات الفضائية والإذاعية يتجاوز ثلاثة ملايين ريال سعودي يوميا[3].
تضخم هائل للبرامج، وتوسع في شريحة المتابعين والمشتركين، يستند في جوهره إلى تحفيز المشاهدين بقيمة الجائزة المبالغ فيها، من أجل لا شيء تقريبا، وهو الأمر الذي يصنع الدافعية للتواصل مع القناة بهدف المشاركة في المسابقة، اتصالات متكررة من المتابعين عادة ما تصل مدتها من 6 إلى 10 دقائق حتى يتم الرد، وهو ما يعد نادر الحدوث"[4].
بذلك، "تحصل القناة على عائدات ضخمة نتيجة تراكم عائدات الاتصالات التليفونية ويتكبد المواطن البسيط تكلفة قد تصل في المتوسط إلى 20 جنيها مصريا أو أكثر للاتصال التليفوني الواحد، الذي لا يؤكد فرص الفوز، ولكنه يكمل مع كم الاتصالات الأخرى، وهو ما يحقق عائدا ضخما لهذه القنوات"[4].
يروي "أيمن" قصته مع هذه القنوات، قائلا، "كنت أحد ضحايا قناة تدّعي أنها قناة للتسلية والمسابقات، ولكنها في الحقيقة هي للنصب والاحتيال على الناس، حيث قمت بالاتصال بالرقم الذي وجدته على الشاشة، لحل اللغز، وجدت أغنية استمرت لمدة دقيقتين، وبعدها وجدت رسالة صوتية مسجلة مدتها 3 دقائق، للاشتراك اضغط 1 وهكذا، وبعد 5 دقائق أعطوني رقم هاتف آخر، للمشاركة في المسابقة، وانتهت المكالمة، ولم أحصد شيئا، سوى خسارتي 10 دقائق، علما بأن تكلفة الدقيقة جنيه ونصف"[5].
"أحمد"، أحد المشاركين في تلك المسابقات، يقول إن المسؤولين عنها اشترطوا في حالة الفوز بأي مبلغ أن يحصل على نصفه فقط، على أن النصف المتبقي غير معفي من الضريبة، ويضيف: "لقد فزت بمبلغ 50 ألف جنيه وتم إعلان مقدمة البرنامج عن فوزي بهذا المبلغ أمام جميع المشاهدين لكني لم أحصل فى الحقيقة إلا على 20 ألف جنيه فقط، وهو ما يعد نوعا من الاحتيال على المتسابقين بالإضافة إلى تضليل المشاهدين"[6].
تلك المسابقات، بمنزلة "طريقة جديدة للسطو على جيوب المشاهدين"[4]، حيث يبين "صفوت العالم"، أستاذ الإعلام بجامعة القاهرة، أن هذا الأسلوب يجسد حالة من السطحية وتوظيف وقت الفراغ بشكل معيب[4]، فهذه القنوات، حسب صفوت، تحقق عائدات ضخمة ولا تتكلف شيئا على مستوى الإنتاج أو تثقيف وتوعية المشاهد، وفي سياق ذلك يتم الترويج للعديد من الإعلانات على الشريط الخاص بهذه القنوات.
الوهم.. ومساعي المُحبطين
في تحليله لظاهرة الحركات الجماهيرية، يرى عالم النفس الاجتماعي "إيريك هوفر"[7] أن حجر الزاوية في إنتاج المؤمن الحقيقي بجدوى تلك الحركات هو الإحباط الفردي لدى المرء من الظروف المحيطة، وهو ما يدفعه للبحث عما يحقق له طموحه من خلالها.
وهو ما يتلاقى، من حيث الانطلاق من الشعور بالإحباط، مع ما تمنحه تلك المسابقات، فإن كانت الحركات الجماهيرية هي ما يمنح المحبط المعنوي أملا عاطفيا، فإن تلك المسابقات تمتلك من القدرة على مداواة الإحباط المادي بصورة شبيهة. وبحسب "محمد بيومي"، أستاذ علم الاجتماع بجامعة عين شمس، فإن "الغريق يتعلق بقشّة، كما يقول المثل الشعبي، فالفقر والحرمان هما أول الدوافع التي تجعل البسطاء يضحون بعشرين جنيها من أجل مكسب 10 أو 30 ألف دولار"[4].
هذه البرامج تعيد المجتمع إلى عصر الفانوس السحري "مستغلة في ذلك الظروف الاقتصادية الصعبة لبعض الشباب الذي يعاني من البطالة، وقلة الدخل، مما يدعم من ثقافة الحظ لدى هؤلاء الشباب اللاهث وراء الثروة بأقصى سرعة ممكنة"[8]. خداع مستمر، يطال البسطاء والمراهقين خاصة، "على حساب قيمة العمل والكسب الحلال، وعرق الجبين، وإعمال الفكر، وإجهاد الجسم، ومواصلة الليل بالنهار، حتى تتحقق الآمال"[8].
فالمسابقات من هذا النوع، تتشابه مع وصف "جان بودريار" لظاهرة الإعلان التلفزيوني من حيث هو إجراء مختصر يمكنه "أن يغرقك في الأحلام من غير أن يحدّثك، بلا ماضٍ وبلا مستقبل، إنه لا يُنسى مع إنه لا يُحفظ، وله من القوة ما يُمكّنه من فرض ما يريده علينا بغير إجبار"[9]. فأنت حينما تتصل للاشتراك، فإنك لا تفعل هذا إلا بحرية كاملة، لكنها في الحقيقة، حرية في القلب منها إجبار يقوده الإغراء المدفوع بالأمل الزائف. تلكم هي الصورة الوحشية للنظام الرأسمالي، حسب "بوديار".
سلطة الشاشة
ثمة نوعان من العنف: عنف مادي ملموس، وعنف آخر خفي لا يمكن لمسه، هكذا قسّم "بيير بورديو" العنف إلى قسميه: المادي والرمزي، وعرّف الأخير بأنه "عنف لطيف وعذب، وغير محسوس، وهو غير مرئي بالنسبة لضحاياه أنفسهم، وهو عنف يمارس عبر الطرائق والوسائل الرمزية الخالصة أي: عبر التواصل، وتلقين المعرفة، وعلى وجه الخصوص عبر عملية التعرف والاعتراف، أو على الحدود القصوى للمشاعر والحميميات"[10].
وعلى قوائم ثلاثة أرسى "بورديو" أشكال العنف الرمزي، والتي من بينها "الشاشة" أو الإعلام بصورة أوسع. فالإعلام هو القناة التي يتواصل من خلالها المواطن مع شخص يمتلك سلطة رمزية تحركه دون وعي بآلياتها، وهي في هذه الحال، تحركه من مستنقع الإحباط إلى سراب الأمل دون أن يعي كيف تمتصّه بلا احتمالية حقيقية في المكسب تحترم طموحه فيه.
في هذا السياق، يثير الكاتب "محمد علي فرج" في كتابه "صناعة الواقع: الإعلام وضبط المجتمع" سؤالا محوريا حول اللغة التي استبدلتها الدعاية من خطاب الطلب قديما "جرب منتجنا" إلى اللغة الآمِرة الحديثة "اتصل لتربح". يرتبط ذلك بالتطور السيكولوجي الذي بلغه علم النفس، حتى وصل إلى الحد القادر على معرفة ما يريده الإنسان، فتبدو الصياغة وكأنها تكشف لك المستور وتدفعك نحوه: أنت تريد المال لتعزيز قوتك ونفوذك، والأجواء المحيطة محبطة ولا تبشّر بالثراء، لا بأس إذن، اتصل بنا على الأرقام المقابلة لدولتك لتحقق حلمك.
ومن خلال علم النفس وأدواته، "يُمكن للشركات أن تعرض منتجاتها من خلال صيغ لا تترك عند المشاهد للإعلان فرصة أن يرفض أو يوافق"[9]. فالآلية المستخدمة هنا تبدأ بالتكرار: "كم مرة عليّ أن أكرر لك القول لتصدق أنه حقيقي؟"[9]. فيقول "جوستاف لوبون"[11] عن التكرار أنه ينتهي بك إلى حد الإيمان به.
فكرة لوبون، تلتقي مع نظرية "توماس سميث"[9] حول الدعاية الناجحة، التي ترى، رغم الاختلاف حولها من المتخصصين، أن الرغبة عند المرء تبدأ من رؤية الشيء -المسابقة في حالتنا- ثم تمر بالانتباه له، ثم التركيز فيه، متبوعا بالاهتمام به والتفاعل معه، ثم التفكير في جدواه والسؤال عنه، حتى ينتهي الأمر إلى محاولة الحصول عليه والتذمّر من تأخر ذلك أو لعن انعدامه.
تتحول بذلك تلك البرامج لتقوم بمقام المخدر المجتمعي الذي يبدد همومك ويحقق أحلامك. فهل تتناسب تلك الأوهام مع طموحات المرء الحقيقية؟ وهل من العدل أن يخوض ملايين -أو حتى آلاف- البشر المنافسة من أجل فوز محتمل، بنسبة لا تكاد تُرى، من أجل إثراء أكيد لخزائن من سيمنحونهم صدقة، بوصفها جائزة؟