زرياب

ابتدع الفن الكلاسيكي، واخترع الغيتار، وانقلبت حياته حين غار منه أستاذه.. من هو «زرياب» رائد الموسيقى في العالم

هل سألت نفسك يوماً من قام باختراع معجون الأسنان؟ من صمم الأزياء حسب الفصول الأربعة؟ هل تفضل الموسيقى الكلاسيكية وتحبها؟ وهل تجعل موسيقى الغيتار قلبك ينفطر؟ ماذا لو قلنا لك إن وراء كل هذا شخص واحد؟ هو من بدأ أول مدرسة موسيقى كلاسيكية في العالم وأدخل الشطرنج إلى أوروبا، إذن ماذا تعرف عن زرياب

رجل واحد وراء كل هذا، هو زرياب، اسمه الحقيقي أبو الحسن علي بن نافع، وهو عبد محرر من أصل كردي لكنه لُقب بهذا اللقب بسبب لون بشرته الداكن وصوته العذب، والزرياب هو أحد الطيور أسود اللون وذو زقزقة رائعة.

وُلد زرياب في العام 789 وتوفي في العام 857م، أي منذ أكثر من 1000 ألف عام، وكانت بغداد موطنه، فقد ولد وعاش فيها أثناء فترة حكم هارون الرشيد، خامس الخلفاء العباسيين.

وكانت بغداد حينها مركزاً عالمياً للفنون والعلوم بوجود بيت الحكمة، الذي نافس وقتها مكتبة الإسكندرية.

كان مجلس الخليفة هارون الرشيد راعياً وداعماً للفنون، وكان زرياب التلميذ المفضل لإسحاق الموصلي الذي اعتبر كبير الموسيقيين في هذا الوقت، ما أهله لينال أعلى المراتب لدى الخليفة

أُجبر على الرحيل من بغداد.. حين غار منه أستاذه

لم يكن الموصلي يدرك جيداً مقدار نبوغ زرياب، ولا مدى تفوقه في الموسيقى، حتى طلب منه الخليفة في مرة أن يستمع إلى عزفه وغنائه.

أدى زرياب في هذه الليلة أداءً بارعاً، في الغناء والعزف على العود، أبدى مهارات كان يخفيها عن أستاذه الموصلي، لأنه كان يعلم نتيجة تفوقه، وبالفعل، أدرك الموصلي أنَّ زرياب سيحل بديلاً له عمّا قريب. لذا، أجبره على الرحيل عن بغداد. ليخسر هارون الرشيد أحد أهم كنوز خلافته برحيله من العراق.

ذهب زرياب إلى تونس بدعوة من الخليفة زيادة الله الأول، لكنَّ عيونه كانت صوب الأندلس التي ظلت تحت حكم الدولة الأموية، والتي كانت قد تحولت إلى جوهرة ثقافية وفنية بعد عبور طارق بن زياد لمضيق جبل طارق (عام 711م).

وبعد زيارته إلى تونس وجَّه الخليفة الأموي «الحكم بن هشام» دعوةً إلى زرياب للحضور إلى مجلسه، لكنه مات قبل أن يستجب له زرياب.

وبناءً على طلب أحد الموسيقيين البارزين في مجلس الخليفة، كرَّم الخليفة عبدالرحمن الثاني طلب والده الراحل بدعوة زرياب مجدداً، ليبدأ سريعاً رحلته نحو الإبداع والتأثير في الأندلس وأوروبا بأسرها.

كان أكثر من فنان موسيقي بارع

كان صوته الشجيّ هو ما جعل منه أسطورةً حيّة فكان يحفظ 10,000 أغنية ولحن عن ظهر قلب، واستغل نفوذه في مجلس الخلافة وقرطبة وأسس مدرسة موسيقى غير مسبوقة في هذا الوقت.

افتُتحت المدرسة للمغنيين الموهوبين من كافة فئات المجتمع وبناءً على التقاليد الموسيقية في بغداد، شجَّع زرياب على التجريب والارتجال.

ووضع أصولاً حاكمة للغناء لبلاد المغرب العربي (ليبيا والمغرب والجزائر وتونس)، وطوَّر 24 وحدة غناء منفصلة «مقطوعات موسيقية»، لكل ساعة من ساعات اليوم.

وساهمت وحدات الغناء الأربعة والعشرون التي بدعها زرياب لاحقاً بعد ذلك في تطوير الموسيقى الكنسية، والتي أصبحت لاحقاً ما يُعرف بالموسيقى الكلاسيكية الغربية.

إضافة إلى ذلك فإنَّ آلة القيثارة (الغيتار) التي نعرفها اليوم نقلها العرب إلى أوروبا على هيئة أداة العود في البداية، ثم أضاف لها زرياب زوجاً خامساً من الأوتار (وتر الجي G). وساهم في تحسينات أدت لابتكار آلة قيثارة الفلامنكو.

أحدث ثورة في الأناقة والطعام

لم تكن إسهامات زرياب في الموسيقى وحدها، فقد أثرى الفنان المسلم مجال التذوق والأناقة.

إذ ارتجل وصفات بغداد الخالدة، وأحدث ثورةً في إعداد طاولات الطعام في الأندلس. ولا تزال بعض ابتكاراته في الحلويات مثل حلوى غيرلاتشي (خليط من الجوز والعسل والسمسم) ذائعة الصيت في إسبانيا حتى اليوم.

ويُعتقد أنَّ زرياب أول من ابتكر حلوى «الزلابيا»، وكان النهج الفرنسي المعروف بتقسيم الوجبة إلى ثلاثة أطباق من ابتكار زرياب. حيث يبدأ بالحساء، ويفضل حساء الهليون، ثم الطبق الرئيسي؛ ثم الحلوى والفواكه والمكسرات. وكان هو أول من أدخل الأطباق الزجاجية والأثاث الجلدي إلى طاولات الطعام.

وكان زرياب مولعاً بالنظافة، والأناقة، فهو أول من ابتكر معجون الأسنان وأول من استخدم الملح في غسيل الملابس وأدخل تصفيفات شعر شهيرة ومختلفة للرجال والنساء. وهو أول من بدأ رسم وتجميل الحواجب.

ولم يتوقف إبداعه عند الموسيقى والطعام، بل امتد إلى العطور. إذ تعود بعض أشهر العطور الفرنسية إلى زرياب. وهو أول من أدخل قواعد لاختيار الملابس للرجال والنساء بناءً على فصول السنة. وأدخل لعبة الشطرنج إلى قرطبة، ومنها انتشرت إلى أوروبا بأكملها.

وتحول أبو الحسن علي بن نافع، من أصول متواضعة إلى واحدٍ من أكثر الشخصيات تأثيراً في عصره. إذ لا يذكر التاريخ كثيرون مثله.

ولا يمكننا أن نغفل أيضاً أنه لم يكن ليبدع بهذا الشكل لولا أنَّ الأندلس كانت واحدة من أكثر الحضارات تسامحاً في ذلك الوقت، هذا التسامح والمجال المفتوح للإبداع أخرج أفضل ما فيه وفي غيره.

سقطت الأندلس ونُسيَ زرياب والعديد من الشخصيات البارزة الأخرى التي أنارت حضارة شبه الجزيرة الإيبيرية، وامتد تأثيرها إلى أوروبا.

لذا، في المرة التالية التي تتناول فيها طعاماً في مطعم فرنسي، ابتسم وأنت ترفع طبقك الزجاجي، وتذكر أنَّ الأندلس قدمت لأوروبا أكثر بكثير مما قد تتذكر!