السفارة الأمريكية في العراق

هل يستغل الحشد الشعبي أزمة السفارة الأمريكية بالعراق لتكرار ما فعله الحوثيون بالحراك في اليمن؟

تشكل محاولة اقتحام السفارة الأمريكية في بغداد، الأزمة الأكثر خطورة في مسار التصعيد بين الولايات المتحدة وإيران، فهل تؤدي هذه الأزمة إلى مواجهة بين الأمريكيين وإيران وحلفائها، أم أنها توفر ذريعة  للحشد الشعبي الأزمة لتكرار نموذج الحوثيين في العراق.

وجاءت الحادثة رداً على الضربات الجوية التي أعلنت عنها واشنطن ضد مواقع تابعة لكتائب «حزب الله» العراقي، أحد أبرز فصائل الحشد الشعبي، مساء الأحد، وقال عنها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إنها «رد على قتل إيران مقاولاً مدنياً أمريكياً وإصابة آخرين»، مهدداً بعدم التوقف عن «الرد بحزم على أفعال طهران».

مناوشات عديدة بدون دماء

وطيلة العام 2019، تعرضت منشآت ومرافق دبلوماسية وقواعد ومعسكرات أمريكية لسلسلة من الهجمات الصاروخية، مستهدفة المصالح والأفراد الأمريكيين دون أن تتبنى أي جهة المسؤولية عن تلك الهجمات.

وخلال الأشهر القليلة الماضية، تعرضت قواعد ومصالح أمريكية في العراق لـ11 هجوماً صاروخياً تتهم واشنطن إيران أو القوات الحليفة لها بالمسؤولية عنها.

لكن الإدارة الأمريكية لم تتخذ أي إجراءات عسكرية «رادعة» رداً على تلك الهجمات التي لم تؤدِّ إلى سقوط ضحايا أمريكيين، باستثناء الهجوم الأخير على قاعدة عسكرية مشتركة لقوات التحالف الدولي والقوات الأمنية العراقية قرب مدينة كركوك (شمال)، قتل فيه متعاقد أمريكي وأصيب عدد من الأمريكيين والعراقيين.

ولأول مرة، تنفذ واشنطن ضربات جوية على فصائل مسلحة عراقية حليفة لإيران، وذلك منذ تشكيل التحالف الدولي للقضاء على «داعش» في أغسطس/آب 2014.

الأمريكيون يأخذون تهديدات الحشد بجدية هذه المرة

وهددت الكتائب، على لسان أبومهدي المهندس نائب رئيس هيئة «الحشد الشعبي»، بـ «رد قاس» على القوات الأمريكية في العراق التي تأخذ مثل هذه التهديدات على محمل الجد خلافاً لتهديدات فصائل أو مجموعات مسلحة شيعية أخرى.

وسبق للمتحدث الرسمي باسم كتائب «حزب الله» العراقي، جعفر الحسيني، أن هدد في فبراير/شباط الماضي، القوات والمصالح الأمريكية، وطالب مجلس النواب بتمرير قرار إخراج القوات الأمريكية من البلاد، محذّراً من أن المواجهات «قد تبدأ في أي لحظة».

جاء ذلك رداً على تصريحات للرئيس الأمريكي من قاعدة «عين الأسد» الجوية بالعراق، نهاية 2018، تحدث فيها عن عدم الانسحاب من العراق والبقاء في هذه القاعدة التي تعد، من وجهة نظره، مكاناً مثالياً لمراقبة النشاطات الإيرانية في العراق والمنطقة.

لماذا تكتسب كتائب حزب الله أهمية خاصة بالنسبة لإيران؟

وتعد كتائب «حزب الله» من أهم المجموعات الشيعية المسلحة المرتبطة بإيران، من حيث قدرتها على إنتاج وتطوير وتخزين الصواريخ الباليستية والقدرة على استخدامها.

وتعرّف الكتائب نفسها بأنها تشكيل جهادي إسلامي مقاوم، يرى أن الطريق الأمثل لتحقيق حاكمية الإسلام هو في إتباع ولاية الفقيه، أي منهج وسياسات المرشد الأعلى للثورة الإسلامية علي خامنئي.

وتعتقد الإدارة الأمريكية أن مسؤولية الهجمات التي تعرض لها محيط قنصليتها وعادة لا تحدد الإدارة الأمريكية والحكومة العراقية الجهة المسؤولة عن الهجمات على الأمريكيين.

غير أنه في الهجوم الأخير على القاعدة العسكرية قرب كركوك، اتهمت واشنطن كتائب «حزب الله» العراقي بالمسؤولية عن الهجوم ومقتل المتعاقد وإصابة آخرين.

احتمالات التصعيد

ومساء الأحد، أعلن وزير الدفاع الأمريكي مارك إسبر، أن الضربات ضد قواعد لـ «حزب الله» في العراق وسوريا كانت ناجحة، ولم يستبعد اتخاذ «المزيد من الإجراءات إذا لزم الأمر للدفاع عن النفس، وردع الميليشيات أو إيران».

في المقابل، حذرت الحكومة العراقية في بيان لها الإثنين، من أن الضربات الأمريكية دون التنسيق معها أو الحصول على موافقتها، تعرض أمن العراق وسيادته للخطر، وأنها ستراجع علاقتها مع التحالف الدولي الذي تقوده واشنطن ضد «داعش».

وتصف معظم الكتل السياسية في مجلس النواب الضربات الجوية الأمريكية بأنها «انتهاك لسيادة العراق».

وأدت الضربات إلى مزيد من الخلافات بين الإدارة الأمريكية وحكومة بغداد التي وصف رئيسها المستقيل عادل عبدالمهدي تلك الضربات بأنها «غير مقبولة وستؤدي إلى عواقب وخيمة».

كما يعتقد أنها أدت إلى تغييرات في مزاج الشارع العراقي، الذي كان يصب جام غضبه  على الإيرانيين ولكن حجم العملية وسقوط ضحايا عراقيين أعاد توجيه الغضب بشكل أو بأخر إلى الأمريكيين.

ولكن لا يعرف مدى تأثير هذا الأمر على الحماسة للحراك الذي يطالب بعزل النخبة الحاكمة المقربة من إيران.

هل يكون التصعيد في صالح إيران؟

ترى صحيفة لصحيفة The New York Times الأمريكية أن الرد الأمريكي المبالغ به من قبل الإدارة الأمريكية خدم إيران وحلفاءها، إذ جعلت الهجمات واشنطن مركز العداء الجماهيري، ما قلل من حدة الغضب تجاه طهران ووكلائها.

كما كان لافتاً في هذا الصدد موقف المرجع الشيعي الأهم في العراق علي السيستاني، والذي ينظر له كمنافس للمرشد الإيراني في الساحة الشيعية على المستوى الديني على الأقل.

إذ أدان آية الله علي السيستاني الهجوم الأمريكي، ونبه إلى أن الحكومة «يجب أن تعمل على عدم جعل العراق ساحة لتصفية الحسابات الإقليمية والدولية».

وقال إنه حتى لو كان الهجوم الأمريكي «انتقاماً لممارسات غير قانونية»، فالسلطات العراقية هي من ينبغي أن تتعامل معها، وليس الأمريكيين.

من يبادر؟

تبدو احتمالات التصعيد واردة من الطرفين.

فالإيرانيون وحلفاؤهم يريدون استعادة ماء الوجه، كما أن أي تصعيد سيضعف الحراك الذي يهد هيمنة طهران وحلفائها على البلاد.

فالبنسبة للنفوذ الإيراني في العراق، فإن الحراك الذي ينتمي أغلبية أعضائه للمذهب الشيعي هو الخطر الأكبر وليس الأمريكيين.

وعلى الجانب الأمريكي فهناك شبه إجماع على تأييد قرار ترامب بشن الضربات بأوساط المسؤولين وأعضاء الكونغرس الذين يرون أن الحكومة العراقية لا تقول بما يكفي لممارسة الضغوط على المجموعات الشيعية المسلحة، لوقف تهديداتها للمصالح الأمريكية بالعراق.

وتناقش الإدارة الأمريكية خيارات أخرى متاحة وإجراءات إضافية، لمواجهة تداعيات الهجمات المتبادلة مع كتائب «حزب الله» قال عنها إسبر إنها لضمان «ردع المزيد من تصرفات إيران أو الميليشيات التابعة لها».

وحمّل ترامب إيران «المسؤولية الكاملة عن تنظيم هجوم» على سفارة بلاده في بغداد، متوقعاً من القوات الأمنية العراقية حمايتها.

وخلال أقل من ساعتين، كرر ترامب تهديداته لإيران التي حمّلها، في تغريدتين منفصلتين، مسؤولية التخطيط للهجوم على سفارة بلاده في بغداد من محتجين غاضبين رفعوا أعلام بعض فصائل الحشد الشعبي، ومنها أعلام كتائب «حزب الله».

ودعا ترامب العراقيين الذين «يسعون للحرية إلى التخلص من الهيمنة الإيرانية»، في حين طالب الحكومة العراقية حماية السفارة والمواطنين الأمريكيين.

هل يتم تكرار نموذج الحوثيين في العراق؟

لقيادات الحشد الشعبي الحليفة لإيران نفوذ واسع في مؤسسات الدولة العراقية الأمنية والعسكرية، وتسيطر على الجزء الأكبر من قرارها الذي أثبته عجز الحكومة العراقية عن القيام بواجبها وفق اتفاقيات فيينا 1961، والتي تفرض على العراق «التزام خاص باتخاذ كافة الوسائل اللازمة لمنع اقتحام أو الإضرار بمباني البعثة وصيانة أمن البعثة من الاضطراب أو من الحط من كرامتها».

ويعتمد تصعيد التوترات واحتمالات الدخول في مواجهات مفتوحة على مواصلة كتائب «حزب الله» وفصائل أخرى حليفة لإيران باستهداف القواعد والجنود ومصالح واشنطن، والرد الأمريكي المتوقع أن يكون أكثر حزماً وأوسع نطاقاً.

وعلى ما يبدو، فإن المزيد من التصعيد بين واشنطن والفصائل المسلحة قد يؤدي إلى فوضى أمنية في ظل «شبه غياب لقوة الدولة العراقية»، أمام قوة ونفوذ الفصائل الحليفة لإيران، والتي «قد» تجد نفسها أمام خيار «فرض الأمر الواقع» باستخدام القوة للسيطرة على بغداد، في تكرار لحالة سيطرة جماعة الحوثي على العاصمة اليمنية صنعاء عام 2014.

لماذا تبدو بغداد فريسة أسهل من صنعاء؟

وبالمقارنة بين الوضع العراقي الحالي وبين الوضع اليمني قبل استيلاء الحوثيين على السلطة في صنعاء يلاحظ أن هناك عوامل مشتركة عديدة.

فقبل استيلاء الحوثيين على السلطة كان اليمن يشهد حراكاً ثورياً حضارياً أدى للإطاحة بالديكتاتور علي عبدالله صالح.

ورغم أن اليمن مجتمع قبلي مسلح، ومنقسم مذهبياً، إلا أن الحراك الذي كان يغلب عليه الشباب المتعلم كان يتسم بالطابع السلمي والسمو على الانقسامات القبلية والمذهبية، والرغبة في بناء يمن ديمقراطي بعيد عن الفساد والمحسوبية والطائفية والتبعية للخارج.

وهي سمات ومطالب تشبه كثيراً الحراك العراقي.

ولكن الأخطر بالنسبة  لإيران ان الحراك اليمني لم يكن يستهدف الحوثيين بالأساس، بل إن الحوثيين هم الذين استغلوا الظروف التي خلقها الحراك والإطاحة بعلي عبد الله صالح لإسقاط الدولة في أيديهم.

تصريحات ترامب خلال وجوده في العراق أعضبت الحشد/رويترز

أما في العراق فإن الحراك يستهدف إسقاط أو تقليم أظافر أتباع إيران وبالتالي فإن هناك  دافع أكبر لدى الحشد لتكرار نموذج الحوثيين في العراق لحماية الهيمنة الإيرانية على العراق.

فالنخبة الموالية لإيران لا تخوض فقط معركة الدفاع عن نفوذ إيران، بل معركة الدفاع عن مكتسباتها وهي معركة إذا خسرتها قد تتعرض لمحاسبة عسيرة من الشارع العراقي الغاضب من الفساد المستشري والذي أضيف إليه العنف في قمع الحراك.

وفي الحالة اليمنية، فإن الميادين كانت تمتلأ بعشرات الآلاف من المتظاهرين السلميين الذي ظهروا بمظهر حضاري مشرف إلى أن جاء الحوثيين لصنعاء ليدخلوا مظلة الاعتصامات والتظاهرات ثم يتحولون فجأة إلى استخدام القوة مطيحين بالحكومة الشرعية والانتقالية.

وتثبت هذه التجربة أنه في لحظات الفوضى فإن القوى الميليشياوية قادرة على العصف بالتظاهرات السلمية والاعتصامات، والأخطر أنها قادرة على العصف بمؤسسات الدولة والقوى الأمنية بل والسيطرة عليها مثلما فعل الحوثيون مع الجيش والشرطة اليمنية.

وفي الحالة العراقية فإن الأمر أكثر سهولة بالنسبة للحشد الذي تضخمت أعداده وازداد هيمنته على الدولة، والأهم أن الجيش والشرطة العراقيين حديثا التكوين ما يجعلهما أقل هشاشة في مواجهة أي عملية ميليشياوتية غادرة.

كما أنه في حالة العراقية قد تبدو القبائل الشيعية القوية عامل صد ضد أي محاولة للحشد لتكرار نموذج الحوثيين.

ولكنه يجب تذكر أن في اليمن كانت القبائل أكبر عدداً وتسليحاً، وبصفة عامة فإن زعماء القبائل في كل مكان ينصاعون للحاكم الأقوى ما دام يحافظ مصالحهم، ولا يهدد القبيلة بشكل جذري، وقبائل شمال شرق سوريا على سبيل عاشت تحت ظلال النظام ثم المعارضة فداعش وهي الآن تخضع لحكم الأكراد.

وقد يكون الفارق الرئيسي بين البلدين، إن للأمريكيين مصالح كبيرة في العراق، وقواعد عسكرية مهمة، ولكن قد ينتهي الأمر بأن يتركز وجود الأمريكيين في أراضي حليفهم المفضل كردستان العراق.

كما أنه أحد العوائق أمام تكرار نموذج الحوثيين في العراق، هو الطبيعة السهلية المنبسطة للعراق (لاسيما جزأه العربي) التي تصعب على الحشد الاختفاء والتواري من أي ضربات أمريكية محتملة كما يفعل الحوثيون للهروب من الضربات السعودية والإماراتية.

في المقابل فإن الميزة الأهم المتوفرة في العراق بالنسبة لإيران، هو أنه بلد نفطي غني وبالتالي الهيمنة عليه بالطريقة اليمنية لن تكون مكلفة، بل قد تسمح لطهران بغرف الموارد العراقية دون مساءلة لمواجهة الحصار الأمريكي الذي تتعرض له.

وتمثل فوضى أمنية جراء اشتباك بين القوات الأمريكية والحشد الشعبي وضعاً مثالياً لتكرار نموذج الحوثيين في العراق خاصة أن الخسائر التي ستقع في مثل هذه الفوضى المحتملة ستتركز على الأغلب في أوساط المدنيين العراقيين وكذلك الميليشيات العراقية الموالية لطهران، وهي مسألة لم يبدُ يوماً أنها تؤرق الإيرانيين الذين أرسلوا مقاتلين شيعة للموت في سوريا دفاعاً عن الأسد من كل الدول ذات التواجد الشيعي الكثيف إلا من إيران نفسها.

فلقد ألقى النظام الإيراني بالشيعة الأفغان واللبنانيين والعراقيين والباكستانيين في أتون القتال لوأد الثورة السورية بينما كان الإيرانيون يلعبون دور الخبراء والقادة فقط.

بالنسبة للإيرانيين فإن مغامرة الاشتباك مع الأمريكيين قد تكون رابحة ما دام هذا التورط لا يشمل طهران نفسها أي لم يحدث مواجهة عسكرية بين إيران وأمريكا.

ويبدو أن ترامب قد طمأن الإيرانيين بهذا الشأن عندما أعلن بعد كل تهديداته بأنه لا يريد حرباً مع إيران.