زعيم مليشيات الحوثي

تشريح مختصر لـ"وطنية" الإمامة الجديدة

محمد عبدالله محمد

▪ في 21 سبتمبر 2014، استولى الحوثيون على العاصمة اليمنية صنعاء. بعد أشهر قليلة، وبالتحديد في 25 مارس 2015، أطلق تحالف بقيادة المملكة العربية السعودية تدخلاً عسكرياً في اليمن لضرب الحوثيين (حلفاء إيران) بدعوى انقلابهم على الرئيس الانتقالي المعترَف به دوليا عبدربه منصور هادي. كان رئيس الجمهورية السابق علي عبدالله صالح هو الهدف الثاني للحملة السعودية وذلك بذريعة اشتراكه في التخطيط لإسقاط العاصمة والإطاحة بالرئيس هادي.

 

في تصديهم للعملية العسكرية التي نفذها التحالف بقيادة السعودية، رفع الحوثيين وأنصار صالح شعار الدفاع عن "السيادة الوطنية" ضد "العدوان" الأجنبي. 

 

في 4 ديسمبر 2017، تمكَّن الحوثيين من تصفية حليفهم الوحيد علي عبدالله صالح وإلى جانبه عارف الزوكا أمين عام حزب المؤتمر الشعبي العام. وهكذا أصبح الحوثي منفرداً في مواجهة كل الأطراف اليمنية بما فيها تلك القوى المسنودة مباشرة من التحالف السعودي. 

 

لم يكن ارتباط الحوثيين، المتعدد المستويات، بجمهورية إيران الإسلامية، يشكل، بالنسبة لهم، مصدراً للحرج الوطني، أبداً.

 

عندما كانوا في وضع الجماعة الهامشية المتمردة في صعدة، كانت علاقتهم بإيران "خيانة" وطنية، لكن من وجهة نظر السلطة الحاكمة في صنعاء. بينما لم تكن "خيانة" في نظر الحوثيين أنفسهم. 

 

من الناحية الجغرافية، ليس لإيران حدود برِّية أو بحرية مع اليمن، كما هو الحال بالنسبة للسعودية، وإلّا لكان ارتباط الحوثيين بنظام طهران يضاهي في قوَّته ارتباط المنظمات الشيعية في العراق ولبنان. 

 

قبل العام 2011، كانت علاقة الحوثيين المالية واللوجستية بإيران مخفيّة ومموهة ومحدودة. أمّا مظاهر تأثّرهم الفكري والآيديولوجي بالثورة الإسلامية الإيرانية، فقد كانت جليّة من البداية وعلى أكثر من صعيد. ومع ذلك كان من الممكن شرعنة الأمر، إذا اقتضت الحاجة، من خلال وضعه في خانة حرية الفكر المنصوص عليها في دستور الجمهورية اليمنية، ومقارنة أنفسهم بتنظيمات وجماعات يمنية ظهرت على الساحة كفروع من تنظيمات وايديولوجيات وافدة من الخارج.

 

وبخصوص حمل السلاح والتمرد غير المشروع على الدولة المركزية، في ذلك الوقت، كانت تبريرات الحوثيين المعلنة ذات صبغة محلية، غالباً، ترتكز على خطاب المظلومية وأنهم إنما يمارسون حقهم "المشروع" في الدفاع عن النفس أمام القوات الحكومية التي كانوا يصفونها بـ "المعتدية"، زاعمين بأنها لم تهاجمهم إلا بغرض حرمانهم من حق التعبير عن معتقداتهم وخصوصياتهم الثقافية والمذهبية. ولم يكن هذا صحيحاً على الإطلاق.

 

بعد استيلائهم على صنعاء، اتخذوا فجأة وضعية من يمارس التخوين باسم الوطنية. أمستْ ارتباطات اليمنيين الآخرين، المباشرة وغير المباشرة، بالمحور الاقليمي المنافس لمحور ايران، في حكم "الخيانة" الوطنية و"الارتزاق". 

 

بيد أن الحوثيين ظلوا يمنحون ضميرهم مسوغاً داخلياً لاستمرار ارتباطهم العميق مع محور إيران، فهناك دائماً وعي مضلّل يَصدّ الملامات ويذيبها، مفاده: نحن مع محور المقاومة لاسرائيل وأمريكا باسم الأمة الاسلامية، بالتالي نحن في هذه النقطة نستبدل الضمير الوطني، المحدود بحدود الوطن، بالضمير الإسلامي الذي لا يحده حد.. [وهذا هو الصوت الذي يتردد في أعماق المنتمين إلى كثير من جماعات الإسلام السياسي، وهو ما يعطل الحساسية الوطنية لأفرادها ويذكي حساسية الايديولوجيا الدينية العابرة للحدود].

 

▪ بعد مقتل الرئيس صالح، لم يعد يطلق على التدخل العسكري بقيادة السعودية وصف "الاحتلال" و"العدوان" سوى الطرف نفسه الذي يطلق عليه أغلب اليمنيين وصف "الإمامة". 

 

غير أن هذا "الاحتلال" أو "الغزو" لم يعلن عن نفسه بوصفه احتلالا أو غزوا، بالمعنى القانوني والسياسي الصريح. كذلك الحال مع "الإمامة"، فهي لم تعلن عن نفسها بوصفها "إمامة". ومثلما توجد شواهد على اتصاف التدخل العسكري الخارجي ببعض صفات "الغزو" أو "الاحتلال"، فالشواهد لا تقل وفرة على اتصاف الطرف الذي يقاتل ضد ذلك التدخل بأكثر صفات "الإمامة" وضوحاً.

 

وإن كان من غير المعقول إسناد مهمة استعادة "نظاما جمهوريا" إلى دول خارجية محكومة بأنظمة ملكية عائلية، وهذه حجة قوية يرددها الحوثيين منذ بداية الحرب، فمن غير المعقول بالقدر ذاته، بل وغير القابل للتصديق، أن يقول الإماميون، أصحاب مبدأ "الحق الإلهي" و"الولاية في البطنين"، أي الإماميون منطقاً وتاريخاً وخطاباً، أنهم جمهوريون وأنهم يحملون راية الدفاع عن سيادة الجمهورية اليمنية. 

 

لدى الاحتلال/ الغزو من المخارج القانونية ما يمكنه أن يستر به وضعه كاحتلال، فهو يقول مثلاً أنه لم يكن ليأتِ لو لم يتلقى طلبا رسميا من الرئيس اليمني المعترف دوليا، وحتى لو كانت مخارج هشة ولا تدعمها دائما الحقائق على الأرض، إلا أنها أكثر فاعلية مما لدى الإماميين من مخارج وأدوات تمويه يمكن أن يسترون به وضعهم كإماميين.

 

من الوجهة الوطنية النظيفة المتكاملة، لا يجوز أن يكون ثمن وقوفك ضد التدخل الخارجي إعادة نظام "الإمامة" ولو تحت مسمى جمهوري. في المقابل لا يجوز أن يكون ثمن وقوفك ضد "الإمامة" التفريط باستقلال بلادك، وفتحها على مصراعيها للقوى الخارجية. 

 

لكن "الإمامة" ليست مجرد إمامة وانتهى الأمر، بل هي، علاوة على ذلك، حليف/ أو وكيل محلي يتبادل الخدمات مع قوة إقليمية خارجية لها مطامع وأهداف امبراطورية لا تنسجم مع ما يفترض أن تكون هي مصالح اليمن العليا. الصفحة الوطنية لـ"الإمامة" ملطّخة مرتين: مرة باسقاط النظام الجمهوري وتثبيت الإمامة عمليا دون الإعلان عن ذلك، ومرة بقابليتهم الواضحة للتفريط في "السيادة" التي يرفعون شعار الدفاع عنها ضد الخارج. 

 

▪ في هذا السياق، من المفيد الإشارة إلى أن الحوثيين يستخدمون المنظور الأمريكي في تعريفهم لـ"الإرهاب"، في الوقت الذي يستخدمون فيه منظوراً إيرانياً لـ"أمريكا" كعدو! إذا تحدثوا عن "الإرهاب"، فإنهم يفعلون ذلك تبعاً للمفهوم الذي تتأسَّس عليه التصنيفات السياسية والأمنية الأمريكية عن الجهات والأشخاص المدرجين في قوائم الارهاب. يستثني الحوثيين من القائمة، حزب الله اللبناني وربما حركة حماس الفلسطينية لاعتبارات معينة. 

 

صحيح أنهم يعتنقون سردية تاريخية مختلفة عن السردية الأمريكية حول نشأة المنظمات "الارهابية" المرتبطة بالإسلام، وعن الجهات الدولية المفترضة التي تقف وراءها وتوظفها لمصلحتها، سردية تختلط فيها الحقائق بالأساطير، إلا أنها، رغم ذلك، ليست سردية خاصة بهم بل يشتركون فيها مع إيران الخمينية وكل من يتحرك في فلكها في المنطقة.

 

ويعلن الحوثيون العداء لأمريكا بوصفها "الشيطان الأكبر" وذلك تبعاً للصورة والفكرة الصادرتان عن إيران الخمينية بخصوص أمريكا. لم يتمكنوا، ولم يحاولوا، صياغة وطرح عقيدة العداء لما يسمونها بـ"الهيمنة الأمريكية" على أرضية الوطنية اليمنية. 

 

لم يقوموا بصياغة مواقفهم وسياستهم بمنطق ومفردات المصلحة الوطنية العليا لليمن، إنهم ضد أمريكا لكن باسم "المسلمين" و"الأمة الاسلامية"، لا باسم الوطن والوطنية. 

 

في المسرح الداخلي للجماعة، يقدمون خطابا يصور الحرب من المنظور الإسلامي الشامل حيث الصراع يجري بين الخير والشر. الفكرة الوطنية، بالنسبة لهم، أقل أهمية من أن تشكِّل عقيدة قتالية بمفردها. فـ"العدوان" هو عدوان سعودي أمريكي، وصهيوني. هذا التعريف المركَّب هو حصيلة مزاوجة بين الشعار الخاص بجماعة الحوثي "الله أكبر، الموت لأمريكا، الموت لإسرائيل، اللعنة على اليهود، النصر للإسلام"، وهو شعار مستوحى من ثورة الخميني، وبين قضية "السيادة" كعنصر من عناصر العقيدة الوطنية، على اعتبار أن السعودية، من وجهة نظر هذه القضية، دولة أجنبية معتدية على اليمن. 

 

الإصرار على أن يكون "العدوان" عدوانا أمريكيا، لا يمكن اعتباره عنصرا ثانويا في خطاب التعبئة الحوثية. إنهم بذلك يقولون: "إذا كانت صورتنا من المنظور الوطني مغبشة وبعيدة عن الكمال، فهناك صورتنا من المنظور الإسلامي التي يصقلها كوننا نخوض حربا مع تحالف أمريكي".

 

ما ينتظرونه من المجتمع هو أن يُقرّ بأحقيتهم في "السلطة" فقط تثمينا للشجاعة التي يتطلبها الإشتباك المميت مع الداخل والخارج. على طريقة الجماعات الجهادية، يقول الحوثيون، باعتزاز، أنهم في حرب مع العالَم مجسداً في أمريكا وحلفاؤها في منطقة الخليج وذلك بالنيابة عن سائر المسلمين. هذا القول يضمر اليقين الفخور بالحق في نيل مكافأة مجزية تقديراً للكفاح الذي يعني ركوب المخاطر واحتقار الحياة في سبيل وعود مطلقة يصعب التحقّق منها أو قياسها.

 

معلوم أن السعودية وتحالفها جاؤوا إلى الحرب مدفوعين في العمق بحافز رئيسي واحد لقتال الحوثي.. الحافز الذي يخصهم: محاربة ظل إيران في اليمن!

 

على المستوى الوطني، بدا وكأن خصوم الحوثي من اليمنيين قد انضموا أفواجاً إلى مجموع الحوافز والاعتبارات السعودية والخليجية لخوض حرب استباقية في اليمن لقطع ما يعتبرونها ذراع إيران وأحد مرتكزاتها التوسعية.

 

بكلمات أخرى: ردة الفعل اليمنية ألحقت نفسها بالاستجابة السعودية لخطر تعتقد هذه الأخيرة أنه يهدد أمنها. أما على النطاقات المحلية، فقد تم استدعاء وتفعيل الحوافز الإنقسامية الجزئية جهوية أو مناطقية أو مذهبية.

 

من هنا نشأت حالة من الإتكال التي تخفي تحتها القناعة بأن السعودية هي المعنية تحديداً بمصير الحوثي وأن القضية هي قضيتها، أي أن اليمنيين الموالين لها ينتمون إلى رؤية للأحداث مرتبطة بوجهة النظر السعودية وأمنها وأولوياتها لا أكثر.

 

كل هذا أعاق إمكانية ظهور ردة فعل يمنية خالصة تتعامل مع الحوثيين كمشكلة وطنية بالدرجة الأولى ثم يأتي البعد الإقليمي والدولي في المرتبة الثانية. وكان بمقدور هذه العملية أن تستفيد من الدعم السعودي، لكنها في الوقت نفسه تحتفظ بإرادة مستقلة بعض الشيء تؤدي دور الضابط السياسي للحرب، وإن لم تكن هذه الإرادة بالضرورة متعارضة تماماً مع مصالح وأولويات المملكة.