“مش يمنية”، “القطعة السوداء اللي رمتها هي شرفها وعفتها”، “بناتنا محتشمات، وهذي واحدة عارية”… تعليقات مسيئة طرحها عدد من الرواد اليمنيين لمواقع التواصل الاجتماعي، إلى جانب شتائم وإهانات أخرى تهاجم الفنانة الصاعدة هاجر نعمان؛ لمجرد ظهورها مرتدية البنطلون، في إحدى صورها الخاصة، بدلاً عن العباءة السوداء.
ونشرت هاجر صوراً لها وهي ترتدي زياً شعبياً خاصاً بنساء محافظة تعز، ولم تسلم يومها، لكن رؤيتها وهي مرتدية بنطلون “جينز” خارج اليمن، أثارت غضب المتشددين بشكل مضاعف؛ حيث رأوا في ذلك سلوكاً مهيناً للمجتمع اليمني المحافظ، من شأنه أن يودي بقيمه.
حول ذلك تقول الناشطة مها عون: “المشكلة لا تبدأ ولا تنتهي عند هاجر، كثيرات تعرضن لتعنيف المجتمع ما إن خالفن لباسه العرفي، اللبس القصير قد يثير حنقه، فكيف بالبنطلون؟”.
رفض الشكل الواحد
يلزم المجتمع اليمني نساءه، عند بلوغهن، بارتداء لباس أسود يغطي كامل الجسد؛ فمن غير المسموح أن تخرج المرأة بغير العباءة السوداء، أو كما تسمى محلياً “البالطو”؛ لأسباب تتعلق بالدين والعرف، وهو ما تلقنته اليمنيات في مدارسهن على مدى 3 عقود مضت، ومازال هذا التلقين مستمراً؛ من خلال تربيتهن على مفاهيم الحشمة والعفة، والتي تتركز في شكل اللباس ولونه، باسم الحفاظ على المرأة وتكريمها.
ويكفي، في مجتمع متشدد كاليمن، أن تخلع المرأة عباءتها لتُتهم بـ”العري والفجور”؛ فاللبس الأسود والواسع هو معياره الوحيد لأخلاق وقيم المرأة، وعلاوة على منعها من اتخاذ قراراتها الخاصة والعيش بالطريقة التي تراها صائبة، لاتزال المرأة اليمنية محرومة من أحقية التصرف بجسدها؛ “حتى لا تعود بالعار على أسرتها والمجتمع”، بحسب كثيرين.
وتجد العقليات الذكورية في لبس هاجر، ومثيلاتها، ذريعة للحط من شأنهن، ومهاجمتهن بكل الوسائل المتاحة واللاأخلاقية؛ ما استدعى كثيرات، مؤخراً، لرفض الشكل واللون الواحد الذي فرضه المجتمع عليهن، والرد على كل من يتخذ من لباس المرأة مبرراً لأفعاله السيئة.
ويقول زكريا الجابري: “تقوم الهيمنة الذكورية في المجتمع اليمني بدور الوصاية في تحديد ما يمكن أن يلبس، وما لا يمكن، وتدفع بأصحابها إلى تبرير أفعالهم اللاأخلاقية تجاه المرأة: كالقذف والتحرش والاعتداء الجسدي والاغتصاب وحتى القتل، بموجب لبسها؛ إذ إن مختلف المشاكل التي تعاني منها الفتيات، عموماً، ومن حاولت كسر مثل هذه القيود، تأتي، غالباً، لأسباب لا يمكن أن تكون منطقية أو مفهومة، غير أن الشكل في مجتمعنا اليمني له الدور الأكبر في تحديد نوعية التعامل”.
تنمر
إن ارتداء المرأة اليمنية لملابس ملونة، غالباً ما يقابل بردات فعل عنيفة من قبل المجتمع، قد تصل إلى الإساءة لسمعتها والتشهير بها، كما حدث مع الفنانة أفنان الوصابي، فبعد أن ظهرت، في أحد فيديوهاتها الخاصة، وهي تغني وتعزف على أنغام “قالوا حبيبك مات”، لحمود السمة، راح كثيرون يتداولون المقطع مع شتمها والتنكر لأصلها، وإرفاقه بعناوين مثيرة للجدل، كـ: “فضيحة” أو “فيديو مسرب”، في إشارة إلى ما كانت ترتديه؛ حيث كانت تعصب رأسها بمشدة، وتلبس بنطلون “جينز”.
ارتداء المرأة اليمنية لملابس ملونة، غالباً ما يقابل بردات فعل عنيفة من قبل المجتمع، قد تصل إلى الإساءة لسمعتها والتشهير بها، كما حدث مع الفنانة أفنان الوصابي
وإلى جانب أفنان، هناك العديد من الممثلات اليمنيات تعرضن لحملات إساءة وتشويه؛ نتيجة تجرؤهن على مواجهة المجتمع اليمني المحافظ بتأدية أدوار تمثيلية وهن يرتدين ملابس مخالفة للعرف، واعتبرت القنوات اليمنية التي عرضت أعمالهن، قنوات مخلة وفاسدة عند كثير من رجال الدين، ومن التعليقات التي تصب في هذه الخانة: “شوية فاسدات لا يشرفن اليمن”، و”أجسادهن صارت للكل”، و”لستم إلا دعاة للرذيلة والتحرر”، وتساءل أحدهم: “هل الجمال والتقدم في العري والفجور؟”.
الفنانة سالي حمادة، هي الأخرى، طالتها حملة مسيئة بعد ظهورها مرتدية البنطلون في مسلسل “جمهورية كورونا”؛ ما أدى لنشوء ضجة بين أوساط المجتمع، وانقسم الناس إلى مدافع وشاتم، وآخر يضع قواعد جديدة لظهور المرأة في التلفاز، وعلى وقع ذلك، كتب الصحفي معين النجري، على صفحته الخاصة في “فيسبوك”: “المجتمع الذي يخشى على قيمه من بنطلون فنانة، مجتمع غير جدير بالاحترام، المجتمع الهش الذي يمكن لخصلة شعر فتاة أن تنسفه، مجتمع لا يستحق الحياة”.
الهروب إلى العالم الافتراضي
ما من امرأة يمنية محصنة من الإساءة والتعنيف إذا ما فكرت بمخالفة اللبس العرفي للمجتمع، سواء على الواقع، أو في العالم الافتراضي، حيث تتجه كثير من اليمنيات للبحث عن مساحة شخصية تتيح لهن التعبير عن أنفسهن، في ظل القمع اليومي لحقوق النساء والحريات الفردية.
ما من امرأة يمنية محصنة من الإساءة والتعنيف إذا ما فكرت بمخالفة اللبس العرفي للمجتمع، سواء على الواقع، أو في العالم الافتراضي، حيث تتجه كثير من اليمنيات للبحث عن مساحة شخصية تتيح لهن التعبير عن أنفسهن، في ظل القمع اليومي لحقوق النساء والحريات الفردية.
وتقول الناشطة رشا عبدالكافي: “مهما بلغت قوة المرأة وشجاعتها، تبقى عاجزة عن مواجهة المجتمع بأكمله، وجهاً لوجه؛ لذا فهي تلجأ لممارسة قناعاتها على مواقع الويب؛ فترتدي ما يعبر عن شخصها، وقد تظهر بشعرها، وتناقش وتجادل كما لا يحدث على أرض الواقع، وعلى الرغم من أن خاصية الحظر قد تفي بالغرض في بعض الأحيان، إلا أن تعنيف المجتمع للمرأة يستمر على هيئة خطابات معادية وتحريض”.
رشا وأخواتها نشأن على العادات اليمنية الأصيلة، كما تطلق عليها رشا، فلم يحدث أن ارتدين “العباءة السوداء” منذ بلوغهن، لكن إحداهن عجزت عن الصمود أمام مضايقات المجتمع لها؛ فتحولت للبس “البالطو” كلما خرجت من المنزل، ونشر صور لها بملابس قصيرة وملونة في عالم التواصل الاجتماعي، كحال كثير من النساء في اليمن، ممن أجبرهن الخوف على العيش بشخصيتين متناقضتين، أو اتخاذ شخصية وهمية.
وتقول عون: “صحيح أن السوشيال ميديا يعتبر ملجأً للجميع، وفيه مساحة واسعة للفضفضة، ولنشر الصور، لكنه، هو الآخر، يخلو من القوانين الرادعة؛ مما يعرض النساء لمضايقات أخرى قد تصل إلى واقعهن المعاش؛ لذا فإن بعضهن يفضلن التواجد بأسماء مستعارة”.
“العباءة لا تحترمني كامرأة”
على شبكات التواصل الاجتماعي أيضاً، يهتم الموثق والمصور اليمني عبدالرحمن الغابري، بنشر صور التقطها فترة شبابه، لليمن؛ لتعريف متابعيه بماضي بلادهم، وعند النظر في بعض صوره، نجد النساء قبل التسعينيات يختلفن في لبسهن؛ فلا وجود للعباءة السوداء آنذاك، بل يبدو واضحاً مدى التنوع في لباس المرأة واختيارها؛ بعض النساء يرتدين تنانير أو فساتين ملونة، ويُخرجن بعضاً من خصلات الشعر، ويشمرن عن سواعدهن، وأخريات ببناطيل واسعة من الأسفل، وهو ما يؤكد أن الشكل الاجتماعي لليمن وثقافته قد تعرضا للتجريف في مرحلة ما.
محمد عبدالرحمن :كان لباس المرأة في اليمن متنوعاً، ويخضع لعدة مؤثرات: كطبيعة عمل المرأة، ومستوى وعيها، والتطور العام في المنطقة، وكان يتميز بتعدد ألوانه أيضاً؛ فلم يعرف اليمن طغيان اللون الأسود على ملابس النساء.
ويقول الناشط محمد عبدالرحمن: “كان لباس المرأة في اليمن متنوعاً، ويخضع لعدة مؤثرات: كطبيعة عمل المرأة، ومستوى وعيها، والتطور العام في المنطقة، وكان يتميز بتعدد ألوانه أيضاً؛ فلم يعرف اليمن طغيان اللون الأسود على ملابس النساء، إلا خلال العقود الأخيرة، بعد أن تم فرض العباءة وتعميمها بالقوة من قبل بعض الجماعات المتطرفة”.
وتشير عبدالكافي إلى أن العباءة السوداء واحدة من العادات الدخيلة على المجتمع اليمني؛ وليست من أصل عاداته، ولا من شأن الدين؛ فهي لا تحترم كيان المرأة، وتعاملها كعورة وكائن ناقص ينبغي تغطيته بالكامل، وألا تزينه الألوان؛ مما يجعل معظم النساء اليمنيات يستغنين عنها بمجرد خروجهن من اليمن، ويتجهن لارتداء ألبسة متنوعة.
عمل مدان
لا يؤثر لباس المرأة على نجاحها في الغالب، خصوصاً على مستوى المجتمع اليمني، إلا إذا كان الأمر يتعلق بالنقاب؛ فهو يشكل حاجزاً بين المرأة والمجتمع، ويضعف من قدرتها على المواجهة؛ لذا تشعر كأنها تناقش من خلف ستار، هذا ما تراه رشا، لكن مها تحمل نظرة مختلفة عن هذا الشأن، مستدلة بقصة إحدى صديقاتها، وهي مصورة عُرفت بلبسها الجريء والمخالف لعرف المجتمع، وتقول: “أشاع الناس عنها كلاماً سيئاً، وأنها تطبع الصور وتقوم بتعديلها عند رجال، لدرجة أن الكثيرات توقفن عن الذهاب إليها، وصرن يسألنني عن سمعتها، وهل ما يقال عنها صحيح؛ والأمر كله بسبب ما تلبس”.
وتنوه أخريات إلى أن تقييد المرأة اليمنية بلبس واحد يؤثر سلباً على إسهامها في مختلف المجالات، وعلى حضورها الفاعل، وإن كان الأمر يتفاوت من امرأة لأخرى، بناء على المجال الذي تعمل فيه.
وتقول نبيلة الزبير، وهي كاتبة وناشطة سياسية: “إنه موقف يخص النساء جميعاً، لكنه يصبح أكثر جوراً عندما يتعلق الأمر بالقطاع الفني، وبخاصة التمثيل والدراما؛ تخيل أن تكون الشخصية التي تجسدها المرأة في العمل التلفزيوني، جالسة في بيتها، ومطلوب منها أن ترتدي ملابس الواقفة في الشارع، أين يكمن عكس الصورة ومصداقيتها وجمالها؟”.
وتضيف: “إن مثل هذه التصرفات تعد مدانة، وينبغي على الجميع مناصرة المشهد الطبيعي للمرأة أينما كانت، وحضورها كما هي داخل النص التمثيلي، بدون أي تقييدات”.
ما وراء الأكذوبة
“نتعرض للاعتداء على الواقع، وحملات التشويه والإساءة على الفضاء الإلكتروني؛ والسبب يرجع لملابسنا وصورنا، هذا ما يبدو ظاهراً، لكن الحقيقة غير ذلك؛ فمن خلف الكواليس، هنالك أطراف مفلسة أخلاقياً تقوم بتمويل حملات ضدنا؛ تتعلل بالعادات والتقاليد، وتدق ناقوس الدين، بعد أن عجزت عن إخضاعنا سياسياً”، تقول رشا.
وتضيف أن اللبس ليس السبب الحقيقي لما تتعرض له المرأة من تعنيف وإساءة، خصوصاً إن كانت تعمل في النشاط الحقوقي، ولها كلمتها في مختلف قضايا المجتمع؛ وهو ذاته ما عرض رشا للاعتداء مرات عدة، تحت ذريعة أن لبسها مخالف لشريعة الإسلام، لكنها كانت قوية بما يكفي لتتجاوز الأمر؛ فهي تنتمي لعائلة داعمة ومشجعة، وتدرك كيف تنظر المجتمعات الذكورية للنساء؛ ما يجعل التجاوز أصعب على الفتيات اللواتي يواجهن الأسرة والمجتمع معاً.
وتتفق كثيرات على أن خوف المجتمعات الذكورية من استقلالية المرأة وقوتها، هو ما يدفعها لمهاجمة ذوات الشأن والمكتفيات ذاتياً، تحت مبرر الدين والعرف؛ لذا تعمل جاهدة على تضييق الحصار عليهن، والتشديد على أنهن فتنة ومكانهن المطبخ، والإبقاء على القوانين الدستورية المتعلقة بالمرأة مجوفة؛ خشية على سلطتها الذكورية من الانهيار، بعد أن أثبتت المرأة جدارتها في مختلف المجالات والميادين، وأنها إنسان عاقل كامل الأهلية.
المصدر: المشاهد